وصلني مع كتاب الدوحة هذا الكتاب الصغير عن المعتمد بن العباد.
كما ذكرتُ في إحدى التدوينات، فإني لم أكن أعرف عن ابن عباد سوى معلومات ضئيلة وغير واضحة بالنسبة إلي خاصة عندما أحاول استرجاعها من الذاكرة، لذلك قررت أن أشاهد أولّا ثلاثية الأندلس (صقر قريش- ربيع قرطبة- ملوك الطوائف) قبل أن أشرع في قراءة الكتاب، وكم كان هذا القرار رائعًا! سررتُ بهذه الصدفة والتي جعلتني أقرر مشاهدة الثلاثية.
حسنًا.. لماذا كان المعتمد بن عباد هو محور ملوك الطوائف ومحل اهتمام الكثير من المؤرخين؟
لأسباب كثيرة، منها أنه شاعر عظيم، ومنها لعلاقته بزوجته الرميكية، وعلاقته بوزيره ابن عمّار، ثم بيوسف بن تاشفين أمير المرابطين، ثم الذُّل الذي عانى منه في أواخر حياته. وسوف نأتي على كل منها باختصار على حسب التسلسل التاريخي لها.
ابن المعتضد بن عبّاد:
والده كان المعتضد بن عبّاد، والذي يرجع نسبه إلى النعمان بن المنذر أحد أشهر ملوك المناذرة قبل الإسلام وصاحب قصر الخورنق. وكثيرًا مايفتخر المعتمد في المسلسل بنسبه وأنه من نسل “ابن ماء السماء”. كان المعتضد بن عبّاد طاغية لدرجة أن كتب التاريخ تحدثت عن “حديقة الرؤوس” وهي خزانة او لوحة كان يعلق فيها رؤوس من قتَلَهم! وتمرد عليه ولده اسماعيل فقتله بيديه! وفي المسلسل يظهر لنا أن المعتمد شاهد قتل أبيه لأخيه- لا أعلم عن مدى صحة الواقعة- وقد تكون هذه الواقعة قد أثّرت فيه كثيرًا، فينشأ المعتمد رقيق القلب ضعيفًا بعض الشيء بخلاف أبيه.
علاقته بوزيره ابن عمّار:
وعلاقته بابن عمّار في أول حياته قوية جدّا -وقد تكون غريبة بعض الشيء لدرجة أن البعض قد شكك في هذه العلاقة لقوتها- حتى أصبح وزيرّا له عندما تسلّم المعتمد الملك بعد وفاة أبيه، فأصبح الآمر الناهي وأصبحت دولة المعتمد هي دولة ابن عمّار. ويذكر التاريخ أنه ردّ الملك الأدفونش|الفونسو وجيشه عن إشبيلية عندما تحدّاه في لعبة الشطرنج وفاز عليه وأهداه طبرزينًا (يشبه الصولجان).
تُورد كتب التاريخ قصة عجيبة: يروي ابن عمّار للمعتمد أنه سمع هاتفّا في المنام يقول له ثلاثا “لا تغترّ أيها المسكين، فإنه قاتلك ولو بعد حين!”
وحينها ضحك المعتمد وقال: يا أبا بكر، أضغاث أحلام.. وكيف أقتلك؟ أرأيت أحدًا يقتل نفسه؟ وهل أنت عندي إلا كنفسي؟
خرج ابن عمّار إلى مرسية وانفرد بحكمها وانقلب بذلك على المعتمد، وأنكر فضله عليه. بل قام بهجائه:
أراك تورّي بحب النساء.. وقدما عهدتك تهوي الرجالا!
بل وذكر زوجته الرميكية بالسوء:
تخيّرتها من بنات الهجان.. رميكية لا تساوي عقالا
لكن ابن عمّار وقع في أسر المعتمد، وبعث إليه يسترحمه لينظر في أمره:
سجاياك، إن عافيت أندى وأسجح.. وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وقتله المعتمد بيديه، بالطبرزين الذي أهداه الملك الفونش إلى ابن عمّار! ثم أمر المعتمد بغسله وتكفينه وصلى عليه ودفنه بقصره!
علاقته بابن تاشفين:
يصف الكتاب العلاقة بين المعتمد ابن عباد ويوسف بن تاشفين بالعلاقة بين الشرق والغرب، بين الحضارة والبدو، بين العرب والبربر..
ضجر أهل الأندلس والمعتمد من الجزية التي كانوا يؤدونها للملك أدوفنش فاستعان المعتمد بالمرابطين، وجرت معركة عظيمة ذكرها التاريخ ضد الأدفونش قادها المعتمد بنفسه مع يوسف بن تاشفين وهي معركة “الزلاقة” وأبلى فيها بلاء حسنا حتى قيل “كأنه بطلها الأول وليس يوسف بن تاشفين” و”ثبت المعتمد في ذلك اليوم ثباتًا عظيمًا، وأصابه عدة جراحات في وجهه وبدنه وشُهد له بالشجاعة”.
في المسلسل اشترط يوسف بن تاشفين على المعتمد أن لا يتعاقد مع الأدوفنش ولا يدفع له الجزية، إلا أن المعتمد أخل بهذا الشرط فأرسل إليه يوسف بن تاشفين جيشًا لعزله. وقيل إن يوسف بن تاشفين عندما رأى إشبيلية وجمال قصورها قال
“لما رأيت تلك البلاد صغرت في عيني فكيف السبيل إلى تحصيلها؟”
وقرر عزل المعتمد بفتوى من أبي حامد الغزالي – ومن الطريف أن المرابطين أحرقوا كتاب الغزالي “الإحياء” بأمر من يوسف بن تاشفين بعد ذلك-. لتقوم بعدها دولة المرابطين ( وهم من غير العرب) “فشنّت الغارة في البلد، ولم يترك البربر لأحد من أهلها سبدا ولا لبدا، وانتهبت قصور المعتمد انتهابا قبيحا” ويأتي الجزء الأكثر حزنُا في قصة المعتمد: قصة أسره 🙁
الذل في آخر حياته:
قاد المرابطون المعتمد وأهله في مرأى من الناس “وقد حُشروا بضفتي الوادي، يبكون بدمع الغوادي”.
ثم أُسروا في طنجة أولًا (أي ليس في بلاد الأندلس!) ثم رُحلّوا إلى مدينة صغيرة في المغرب اسمها أغمات وبقي هناك حتى توفّاه الله.
تخبطت مشاعري كثيرًا حين رأيت ملكّا قد ذُل في آخر حياته، ولا أدري لم كل هذه القسوة من يوسف بن تاشفين حيث كان بإمكانه حبسه في الأندلس دون أن يذله هكذا ولكن المرابطين عُرفوا بالجفاوة والقسوة. وقد ذُكر بأنه قد أطلق سراح طائفة من أهل فاس كانوا قد عثوا فيها فسادا، وفسقوا وطغوا.. ولكنه لم يُطلق سراح المعتمد ولم يخفف من قسوة أسره. واشتكى المُعتمد من الغربة وحنينه إلى أشبيلية والأندلس كثيرًا في أشعاره.
ولفترة، وُضع القيد في أرجل المعتمد – ولا أدري لماذا القيد وهو عجوز لا يُخشى منه الهرب، هذا بالإضافة إلى وجود حارس في أسره- وقال في ذلك:
قيدي! أما تعلمني مسلمًا؟ .. أبيت أن تشفق أو أن ترحما؟
دمي شراب لك واللحم قد.. أكلته! لا تهشم الأعظما
واشتغلت بناته في حياكة الصوف وغزله للناس، وفي ذلك قال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا…فساءك العيد في أغمات مأسورًا
ترى بناتك في الأطمار جائعة.. يغزلن للناس، مايملكن قطميرًا
يطأن في الطين والأقدام حافية.. كأنها لم تطأ مسكًا وكافورًا
واشتياقه لوطنه، ثم شعوره بالغربة في المغرب:
غريبٌ بأرض المغربين أسيرُ ..سيبكي عليه منبر وسرير
ونلاحظ أن المسلسل يهتم بوضع أصوات الغربان قبل وقوع أمر عظيم- صوت الغراب عند العرب نذير شؤم- وفي ذلك قال المعتمد:
غربان “أغمات” لا تعدمن طيبة .. من الليالي وأفنانا من الشجرِ!
ثم قوله لهذه الأبيات الحزينة والرائعة والتي أوصى بأن تُكتب على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي.. حقًّا ظفرت بأشلاء بني عبّاد
يذكر المؤرخون بأنه لولا هذه النهاية التراجيدية للمعتمد – كأن قُتل في الزلّاقة- لما كان شأنه ذكر بغير القدر الذي عليه الآن. “أو ليس موت الشخص باعثًا لانبثاق حياة أخرى؟”
علاقته بزوجته اعتماد الرميكية:
على الرغم من أنها زوجة المعتمد، إلا أنها مازالت تُنسب إلى رميك بن حجاج لأنها كانت جارية عنده فسُمّيت بالرميكية. وبينما كان المعتمد يتنزّه مع صديقه ابن عمّار عند النهر طلب منه بأن يُكمل صدر بيت الشعر الذي بدأه
صنع الريح من ماء الزرد..
إلا ابن عمّار تأخر في الرد عليه، فجاءه الرد من امرأة عند النهر تغسل الملابس:
أي درع لقتال لو جمد
فأُعجب المعتمد بسرعة بديهتها وبجمالها فقرر أن يشتريها من رميك بن حجاج وأن يتزوجها
كان المعتمد يحب زوجته كثيرًا، لدرجة أنه قرر أن يُلقب بالمعتمد على اسمها اعتماد- اسمه محمد بن عبّاد بالمناسبة- وروت كتب التاريخ أنه كان يُنفق عليها الكثير من ماله لإرضائها، ومن أشهر هذه القصص قصة (يوم الطين) فقد اشتهت الرميكية يومًا أن تلعب في الطين كما كانت تلهو به وهي جارية، فأمر المعتمد بأن “يُسحق لها الطيب، وتغطى به كل ساحة القصر، ثم تُصب الغرابيل، ويُصب ماء الورد عليهما، وقد عُجن ذلك حتى أصبح كالطين فسارت عليه الرميكية مع جواريها” وقد غضبت منه في الأسر في آخر حياته بعد أن انقلب أمره، فقالت له والله مارأيت منك خيرا قط، فقال “ولا يوم الطين؟”.
وقد تُوفيت قبل زوجها، ودُفن بجانبها في ضريح في أغمات أصبح معروفًا بعد ذلك.
في هذا المسلسل أيضًا نجد الشاعر ابن زيدون والذي كانت العرب تُشبه أشعاره بالمتنبي شاعر الشرق- إلا أن أحمد أمين في كتابه عصر الإسلام يخبرنا بأنه لم يتفوق على المتنبي- وكونه وزيرًا للمعتضد ثم ابنه المعتمد، وعلاقته بولّادة بنت المستكفي والتي قالت فيه شعرًا جميلًا نُقش على قبرها في قرطبة:
أغارُ عليك من عيني ومني .. ومنك ومن زمانكَ والمكانِ
ولو أني خبأتُك في عيوني .. إلى يوم القيامة ما كفاني
في النهاية، لم أسميتُ تدوينتي هذه بملوك الطوائف – قيم أوف ثرونز؟
المتأمل في حال ملوك الطوائف يتعجب من إقتتالهم من أجل المُلك، حتى أنهم ليتفقون مع العدو الأجنبي (ملك قشتالة) ضد بعضهم البعض من أجل بقائهم على العرش دون الإكتراث بأحوال شعبهم. ثم هناك الكثير من قصص الطغاة والخيانة والمؤامرات في هذا المسلسل، كعزم ابن المعتضد “اسماعيل” على قتل أبيه، وقتل المعتمد لابنه، وقصة حب ولادة بنت المستكفي وابن زيدون، وخيانة ابن عمّار للملك..وغيرها. والعجيب أن هذه القصص حقيقية من التاريخ وليست من خيال أحد، والأعجب من ذلك أن التاريخ يُعيد نفسه ولكن هل من مدكر؟ ثم إنني اخترت هذا العنوان حتى يجذب اهتمامك أيها القارئ، فلو وضعتُ اسم ملوك الطوائف لتردد البعض في قراءة التدوينة 🙂
أبدع المخرج السوري حاتم علي، ومؤلف المسلسل وليد سيف في الثلاثية كثيرًا رغم ضعف الإمكانيات في ذلك الوقت. الحوارات التي دارت بين الممثلين رائعة وقفت عندها طويلًا! أشك في أن هناك من هو أفضل من السوريين واللبنانيين في تقديم البرامج والمسلسلات باللغة العربية الفصحى منذ سانشيرو وكابامارو حتى مسلسل عمر بن الخطاب.
أنصحكم بمشاهدة الثلاثية! إلى اللقاء في تدوينة قادمة.
لأول مرة أعلم بشأن المعتضد لكن صدقاََ تأثرت بالحوار الذي دار بينه وبين زوجته “ولا يوم الطين؟”. عزيز قوم ذل
ولم يرحم يوسف بن تاشفين هذا العزيز الذي ذل
شكرًا على مرورك