في إحدى المحاضرات، وبينما كان الأستاذ يقرأ بدون شرح من الشرائح الماثلة أمامه على الشاشة، فوجئت بأن الجميع يتظاهرون بالانشغال، فإما أن يهزون رؤوسهم وأعينهم تسرح في مكان آخر، أو يتظاهرون بتدوين مايقوله الأستاذ وهم يلعبون بأجهزتهم الالكترونية. أما أنا فقد لاحظت أنني أتظاهر بالكتابة بينما كنت أخربش في مفكرتي وأرسم.
نحن نكذب لأن الآخرين يجبرونا على الكذب، ونتظاهر بالانشغال لأننا لا نرغب في إحراجهم. لم نكن بالطبع نرغب في الصراخ في وجه الأستاذ بأن محاضرته مملة للغاية وأننا مُجبرون على الحضور.
يسألك شخص عن حسابك الشخصي في إحدى الشبكات الإجتماعية، فتجيب أنك مشغول لدرجة أنك بالكاد تستخدمه هربًا من سؤاله. ويسألك آخر الخروج معه فتخبره بانشغالك طيلة الأسبوع. تتظاهر بالانشغال بالعمل حتى لا يعتقد مديرك بأن لديك وقت شاغر فيكلفك بأعمال ليست من مهامك. وجدتُ مقاطع انتشرت في تيك توك تُظهر بعض ربات البيوت الأجنبيات متكئات على الآرائك فما إن تسمع إحداهن صوت مفاتيح الباب تعلن عن وصول زوجها من العمل حتى تقفز من مكانها ممسكة بالمكنسة متظاهرة بانشغالها بالمهام المنزلية. فوجئت بالتعليقات مدافعة عن تصرفها بأنها لا تريد إشعار زوجها الذي ”يكرف“ بأنها منعمة في هذه اللحظة حتى لا تعطي انطباعًا بأنها كانت كذلك طوال اليوم مراعاة له. وكأن الانشغال فضيلة؟ نعم هو فضيلة عندما تهمك مشاعر الآخرين. أذكر أنني عندما نشرت أول تدوينات لي في عام ٢٠١١ قالت لي إحدى الزميلات ”ماشاء الله عليكِ فاضية!“ وفاضية هنا تعني أنه لدي فراغ من الوقت -بخلافها الغارقة في أشغالها- جعلني أدوّن وأنشر، وهي إذن تؤكد بقولها ضمنيًا أن الانشغال فضيلة حقًا.
لكن هل نحن حقًا مشغولون؟ مع التقدم في العمر وتعدد المسؤوليات وتكاثر مشاغل الحياة تقوم أدمغتنا بتصفية الأشخاص حسب أهميتهم لتصبح لدينا قائمة غير مرئية بالأشخاص المهمين في حياتنا. وعندما تحين أوقات الفراغ، قد ترجح كفة وقتنا الخاص على الوقت الذي سنمضيه مع شخص آخر ليس موجودًا ضمن القائمة. نحب الآخرين ونتمنى الخير لهم، لكن حتى أكثر الناس حبًا للاجتماعات وللاختلاط بالآخرين قد يتظاهرون أحيانًا بالانشغال رغبة في العزلة أو لأجل أولويات لديهم. وإذا كان أبو تمام يقول بأن سيد القوم هو المتغابي، فقد يتسنى لنا في هذه الحياة العصرية أن نقول بأن سيد القوم هو المتشاغل.