إن الشجا يبعثُ الشجا

 

Arianna Vairo

 

حدثتني جدتي عن قصةٍ لملك في قديم الزمان بنى له قصرًا عظيمًا بلغ الكمال وتحدى الجميع أن يبحثوا عن النقص الذي فيه، فكان الناس يلِجون القصر ويبحثون فيه عن الأخطاء فيتعجبون لكماله دون أي نقصان. حتى دخله درويش من الدراويش وأخبر الجميع أن به بالفعل عيبًا واحدًا..

فأحضره الملك فسأله: هل تعلم لقصري عيبًا؟
قال: نعم
قال: وما هو؟
أجاب “يموت صاحبُ الدار ويفنى الدار”

كان منزلنا في المدينة يفيض جمالًا وحبًا، وكنتُ أراه من أجمل البيوت ليس به عيبًا واحدًا، أجد فيه صوت أبي ورائحة أمي. أمرٌ اعتدت عليه واعتقدتُ بخلوده إلى أن توفي والدي رحمه الله وغادر صوته منزلنا وأصبح مُوحشًا كما قلبي.

توفيت جدتي في عام كورونا، بكيت عليها كثيرًا وكأن الجرح انفتق من جديد، بكيتُ كذلك على خبر وفاة والدة صديقتي، وما انفك الجرحُ غائرًا يتكشّف مع كل حديثٍ بوفاة:

 إن الشجا يبعثُ الشجا… فدعني، فهذا كلهُ قبر مالكٍ

نعم هذا كله قبرُ أبي. 

ومن نكد الدنيا أن يصادف تاريخ وفاة والدي بالميلادي يوم عيد الفطر ، وكأنه يُذكّرني بالرأس الكريمة التي كنتُ أقبّلها في كل عيد وغير عيد: 

سأذكرهُ ولو غطاهُ قبرٌ .. وأهمِسُ عيده عيد سعيدُ
وإني لستُ أنسى حين كنا .. نقبّل رأسهُ في كلِّ عيدُ

“بين الصورتين أكثر من ٢٥ عامًا.. يموتُ صاحب الدار ويفنى الدار”

الأحزان الاستثنائية

فان جوخ: عند بوابة الخلود

”كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن كل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة“ وهذا ينطبق أيضًا على الأفراد. فكل الأشخاص السعداء يتشابهون، أما التعيس فهو تعيس على طريقته. دائمًا ماتكون السعادة مشتركة، أما الأحزان فهي فردية ولاتشبه أحزان الآخرين. كل منا لديه أحزان استثنائية.

 بعد مرور أشهر من وفاة والدي رحمه الله، استنكرت إحدى الزميلات حزني بقولها ”لم كل هذا الحزن؟ توفي والدي قبل عام أيضًا“. حسنًا فأنا لستُ أنتِ. لا أستطيع أن أغدو إيجابية بهذه السرعة مثلك. هذا أمر بديهي. وهذا ينطبق كذلك على كل الأحزان في الدنيا.

كتبت هذه التدوينة بعد مشاعر الحزن العميقة التي اجتاحت صديقة عزيزة بسبب حادثة ألمت بها. أخبرتني أنها تشعر بالأسى لأن البعض قد استخفوا بماتشعر به بطريقة ما. النية الطيبة موجودة، لكن مافائدتها إذا أضرت الكلمات بالآخرين؟

 بعض النقاط التي نحتاج أن نتذكرها في التعامل مع شخص حزين:

  • أصغ جيدًا إليه: كل مايحتاجه الشخص الحزين هو أذنا صاغية دون انتقاد حتى وإن كان مخطئًا. إذا مضى وقت مناسب على حزنه تستطيع حينها أن تنبهه عن خطئه. 
  • إياك والنصائح: آخر مايتوقعه الشخص الحزين منك أن تنصحه. بدلًا من ذلك قدم مساعدتك له في أن تخرجا معًا في نزهة على سبيل المثال للترفيه عنه.
  • لاتقارن حزنه بأحزان الآخرين: ليس مجديًا أن تخبر الشخص الحزين على من فقده بأن فلانًا قد فقد كل عائلته في حادث سيارة، أو الشخص الذي قد فُصل من عمله بأن فلانة قد خسرت كل أموالها في البورصة. كفى.. هذا ليس سباقًا!
  • لا تقلل من الأمر الذي يحزنه: قد يبدو الحزن تافهًا، لكنه قد يكون قديمًا، وظهر كالقشة التي قسمت ظهر البعير.
  • لاتذكّره بتقدير النعم وشكرها: الحزين ليس كافرًا بالنعم. يدرك جيدًا النعم التي لديه، وعندما يُخبرك بحزنه فلايتوقع حينها منك نصيحة وعظية. انزل من برجك العاجي.
  • ساعده حتى يجد الدعم الكافي: إذا وجدت الشخص الحزين يكثر الحديث عن الموت فانتبه، ربما دخل مرحلة أعمق من الحزن: الإكتئاب. شجعه بالذهاب إلى الطبيب النفسي. 

أما المحزونون، فلا بأس من البكاء والغضب فهي مشاعر طبيعية، لكن لاتتناسوا أحزانكم بل واجهوها: 

“من الأفضل أن نتغلب على أحزاننا بدلًا من خداعها. لأننا إذا حاولنا تناسيها بالملذات والإنشغالات فإنها ستعود مرة أخرى بشكل أقوى لتستعبدنا.

لكن الحزن الذي هُزم بالمنطق سيسكن للأبد. لست هنا لأصف لكم تلك العلاجات التي استخدمها الكثير من الناس، والتي تقوم على إلهاء نفسك أو تحويرها عن الحزن برحلة ممتعة إلى الخارج، أو بقضاء وقت طويل في مراجعة حساباتك وإدارة ممتلكاتك، أو حتى الاستغراق في ممارسة أنشطة جديدة. كل هذا سيساعدك لفترة قصيرة فقط، لكنه لا يعالج حزنك بل بالأحرى يعيقه. أفضل أن أُنهي حزني على أن أشتته“. – سينيكا 

أنا لا يموتُ أبي

The Heart and the Bottle: Oliver Jeffers

عندما كانوا يحدثونني عن الله في طفولتي، كنتُ أتخيل أبي. فالله هو اللطيف والكريم والرحيم، وكذلك كنتُ أرى أبي. وعندما أخبروني بأن الله يغضب عندما نعصيه، كنت أتخيل أبي غضبان وهو جالسٌ على كرسيه في صالة المعيشة، يُنادِي عليّ فأذهب إليه مُستغفرة. والأعجب من ذلك اعتقادي بأن أبي لا يموتُ. فمنذ عرفتُ أبي وهو يُذكّرنا بالموت وأنه سيموت وأنكلُ نفسٍ ذائقةُ الموت“. كنتُ أراه مفعمًا بالحياةأو كما رغبتُ أن أراهرغم ضعفه وقلة حيلته مع تقدمه في السن.

ولكنهم في ال١٣ من مايو من عام ٢٠١٧، أخبروني بموت أبي..

ضلالٌ! أنا لا يموتُ أبي!“

كنتُ عائدة من رحلة طويلة من أوتاوا إلى جدة، حيث أخبرتني أمي بضرورة القدوم للاطمئنان على أبي. توقفتُ عند السوق الحرة في المطار لأبتاع عطرًا هدية لأبي، ولكنني في هذه المرة تخليت عن هذه العادة.. فكيف سيستخدم أبي العطر وهو على حالته في المستشفى؟

كنتُ أتصور أن أبي سيُسر حتمًا بقدومي وسيُشفى، وأخذتُ أتخيل الأحاديث والقصص التي سأرويها له. ولكن ما إن حطت الطائرة مطار جدة حتى أتاني خبر وفاته. اسودّت الدنيا في عينيّ كما اسودت تمامًا في عينيه. لِم لَم ينتظرني؟

مرت ساعات طويلة حتى رأيت أبي للمرة الأخيرة في حياتي. كان أبي يدعو لي دائمًا بدعوة أحببتُهاالله يجعل السعد حليفك والتوفيق“. وعندما رأيته والبياض يكفنه، انهرت وانكببت عليه باكية وقد نسيتُ كل الكلمات، وأنا التي لاتُعييني الكلمات، وأصبحتُ أُقبّل جبينه ورجليه وأُرددالله يرضى عليك.. الله يجعل السعد حليفك والتوفيق في الآخرة“.

أبي ماعاد بيتُنا حُلوًا كسائرِ البيوت..
أبي ألقاكَ في المنام وكلما أصحو تموت

انقضت ٣ سنوات بدون أبي. مات أبيلم يكن إلهًا أو خالدًا كما اعتقدتوأصبحَ حُلمًا. والأقسى من ذلك أنه ستنقضي سنوات طويلة للغاية، إلى أن أموت، بدون أبي.. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

 

عبق المنازل

Illustration by Merlin

“بوسع البشر أن يغمضوا أعينهم أمام ماهو عظيم أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، ولايستطيعون صدّه إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، إنه يدخل إلى أعماقهم، الى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل اليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه.”

في إحدى الأيام وجدتُ كيسًا في زاوية المجلس، فتحته من باب الفضول لألقي نظرة ثم قلت لأمي مؤكدة لها”هذا من أم فيصل“ 

عرفتُ مصدر الكيس من رائحته التي فاحت عند فتحه. أعرف رائحة منزل صديقة أمي جيدًا، له رائحة مميزة كبقية البيوت التي زرتها. فكل بيت بالنسبة لي له رائحة تميزه عن البيوت الأخرى. 

خطرت في بالي كتابة هذه التدوينة عندما خرجت إلى الشارع وشممت رائحة جميلة فقلت ”رائحة مطر“ مع أنه لم يكن هناك أي أثر للمطر على الشوارع والسماء صافية. أخبرتني صديقتي أنه نزل هتّان قبل فترة وجيزة. نعم للمطر رائحة، كما للشمس رائحة، ولأوقات الطبيعة روائح مثل رائحة الصباح الباكر وآخر المساء قبيل الفجر. 

أعرف جيدًا رائحة أمي، وأستطيع أن أُخرج طرحتها من بين عبائات النساء الأخرى، وكذلك رائحة ابنتي وكل فرد من العائلة. وكم تمنيت أن أحتفظ برائحة أبي رحمه الله.. ألم يتوصل العلم إلى طريقة نحتفظ بها بروائح أحبابنا إلى الأبد؟ 

هنا بعض الروائح التي تعيد لي ذكريات الطفولة:

 أقلام الرصاص والمسّاحات
الأقلام الملونة برائحة الفواكه
دواء الكحة بنكهة الفراولة 
الطباشير
كلور المسابح
بخور المستكة خاصة أيام رمضان والجُمع
رائحة نيسكويك
خبز البر المديني
التميس
الكتب في أول يوم دراسي
صمغ اليوهو

عطر راماج من برجوا، وعطر ريف دور
مطار جدة
فاكهة الخربز
الورد المديني والفل
الحبق

ماذا عنكم؟
أي الروائح تُعيد لكم ذكريات الطفولة؟

عند الإشارة.. تكون الساعة الثانية مساءً

هل تذكرون أول مرة استخدمتم الساعة في حياتكم؟

  • كانت أول ساعة معصم اقتنيتها هي الساعة التي اشترتها لي أمي عندما كنت بصحبتها في سوق المدينة الدولي. كنتُ في السنة الرابعة الإبتدائية أي أن عمري كان حينها ٩ سنوات. الساعة فضية اللون، وبداخلها عقارب ذهبية. كانت بسوار مطاطي، سهلة اللبس. أما شكل المينا فأذنيّ ميكي ماوس، وبداخلها رسمة ميني ماوس. كانت الساعة رائعة بحق-مازلت أحتفظ بها-، وكنت انتبه للوقت من خلالها بالأخص أوقات الحصص المدرسية ووقت الطابور والانصراف.
    كنتُ ألبس الساعة في اليمين وكنتُ أعدّه أمرًا طبيعيًا لأنني استخدم يدي اليمين في الكتابة، حتى نادتني أبلة القرآن وأخبرتني أن أضعها في معصمي اليسار “لأن الساعة تُلبس في هذا المكان”. بعدها أصبحتُ ألبس الساعة على معصمي اليسار دون أن أعرف الحكمة من ذلك.

  • كانت لدينا ساعة حائط من سيكو في صالة الجلوس تدّق كل ساعة بنغمة مطولة، وكل نصف ساعة بنغمة خاطفة سريعة. حركات عقارب هذه الساعة ودقاتها تجلب لي العديد من الذكريات السعيدة: وقت المسلسلات الكرتونية، قرب رجوع أبي من خارج المنزل، اقتراب موعد طعام الغداء، الوقت الذي أصبح فيه متأخرة عن المدرسة، وأوقات الصلوات… 
  • عندما كنت أتجهز في أيام المدرسة لمذاكرة اختبار مادة تعيسة تتطلب الكثير من الصبر، كنتُ أضع ساعة أمامي وأقول لنفسي ”سأنتهي من هذه الجزئية- قد تكون صفحة أو أقل- بعد ٢٠ دقيقة بالضبط، عندما يُشير عقرب الساعة الكبير إلى ٤“ وابدأ في المذاكرة بتركيز شديد ومتواصل دون انقطاع.بعد سباق مع الزمن انتهي من الجزء الذي حددته وانتقل إلى الجزء الذي بعده فأتبين مدى صعوبته وأحدد الوقت المناسب له وهكذا، أكرر هذه الطريقة حتى إذا أخذني الإرهاق حددت لنفسي راحة مدتها نصف ساعة بالضبط. إلى أن انتهي من مذاكرة المادة.هذه الطريقة حفظت لي الكثير من الوقت أيام الاختبارات، وكذلك خلصتني من التوتر. إذ أنني كنتُ أشعر بأن الوقت سيداهمني فلابد من التركيز، على خلاف صديقتي التي كانت تذاكر اليوم كله لكن كان وقتها يضيع بسبب المُشتتات خلال اليوم. أما أنا فيومي كان مابين المذاكرة والراحة وأحيانا اللهو.عندما كبرت تعلمتُ أنه عندما ترغب في كتابة هدف ما تود تحقيقه، فإنه يجب أن يكون هذا الهدف:
    ١- قابل للقياس
    ٢- واقع من الممكن تحقيقه
    ٣- وأن يكون محدد بزمن معيّن
    فمثلا، لايصحّ قول ”أود أن اقرأ الكثير من الكتب هذه السنة“ إذ أن الكثير هنا غير قابل للقياس من الممكن أن يكون الكثير ١٠ أو ١٠٠، ولا يصحّ ”أود أن اقرأ ٣٠٠ كتاب في السنة“ إذ أنه لايمكن تحقيقه- من يقرأ أصلا ٣٠٠ كتاب في السنة؟!- ، ولا قول ”أود قراءة ٥٠ كتابًا“ لأنه غير محدد بزمن، فيجب تحديد كمية الكتب المقروءة. أما عبارة ”أود أن اقرأ ١٢ كتابًا في السنة“ فهذه هي الصيغة المثالية.

    بالطبع كان الهدف في مذاكرتي أمر من الممكن تحقيقه، قابل للقياس (صفحة أو أقل)، ومحدد بزمن معين (نصف أو ٢٠ دقيقة).

    انتقل سباقي مع الساعة إلى يومي هذا ولكن بشكل آخر، فحين يداهمني أمر يقلقني وأرغب بشدة في التخلص منه – كموعد لطبيب الأسنان – فإني أضع المنبه على وقت خروجي من العيادة. فإذا حل اليوم التالي وانتهيت من زيارة طبيب الأسنان وكنت في السيارة عائدة إلى المنزل إذ فجأة أسمع صوت المنبه، فأتذكر أنني تخلصت مما كان يقلقني وأشعر بسعادة بالغة. مع توتري، أنسى في كل مرة أنني وضعت المنبه.
    اتبع هذه الطريقة في أمور مختلفة: اجتماع، مقابلة، اختبار، نهار مليء بالمشاغل.. جربوها وتذكروا عند كل أمر يقلقكم أن هذا الوقت سيمضي ويمضي الأمر معه.

  • كنتُ أهاتف أبي رحمه الله يوميًا لسنوات على الساعة ال١٠ مساءً بتوقيت السعودية (أما بتوقيت كندا فالساعة ٢ أو ٣ ظهرًا على حسب التوقيت الصيفي أو الشتوي)، وكان أبي رحمه الله ينتظر اتصالي عند الهاتف في ذلك الوقت، فإذا مر يوم دون أن أتصل عليه يخبرني في اليوم التالي أنه انتظرني عند الهاتف طويلا. عندما مرض أبي ثم تُوفي، احتجتُ لأن أُشغل نفسي ما بين الساعة ٢-٣ حتى أتناسى وقت المكالمة. مرت شهور طويلة، ومازلتُ أشعر بالحزن كلما حلّت الساعة ٢ ظهرًا. 

كيف حالُك يا أبي؟

كنتُ أسخر من هؤلاء الذين يؤكدون أن شهر شعبان هو شهر تكثر فيه حوادث الوفاة وأخبرهم بأن الموت يحوم حول أشهر السنة، ولكنهم يُثبتون تركيزهم على شعبان فتظهر لهم العجائب. سخرت مني الأيام ومات والدي في هذا الشهر قبل عام.

أمضى عام على وفاتك يا أبي؟ كيف كان عامك؟
هكذا كان عامي، ثقيلًا مُتعِباً.

ثقيلة تلك الأيام التي تُذّكرنا بأنها الأُولى بدونك: أول رمضان لم تصمه معنا، أول عيدٍ لم تكن فيه بيننا، أول اجتماع عائلي من غيرك ..

مُتعبة تلك الليالي التي ما إن اتخذ فيها مضجعي حتى تداهمني الذكريات، فأبحث عنك بينها لعل لقاءً في المنام يكونُ. 

أمسيتُ أسمعك تناديني في أحلامي فأركض إليك قبل أن يتلاشى صوتك فانتبه لأجدني غارقة في دموعي. أراك في منامي أخيرًا لكني ما ألبث أن استيقظ لأجد نفسي متضاربة بين الفرح والحزن، الفرح برؤيتك والحزن لأنه كان حلمًا. أصبحتَ حلمًا فقط يا أبي كما كنت حقيقة قبل عام. كنتَ تخبرني “أمي صارت حلم، والفيروزية حلم، وحياتي كلها حلم وبكرة أبوكي حيصير حلم” وها أنت الآن وقد صرتَ حُلمًا.

استحضر يومًا من أيامنا الروتينية في ذلك المنزل الجميل لأجدها أوقاتًا في غاية الروعة. لمِ لم أكن أدرك قيمة تلك الأيام؟

كيف حالُك يا أبي؟  

أصبحت لدي ابنة جميلة يا أبي. ألاعبها وأخبرها بأن جدها لو رآها لأحبها. أخبروني بأنها تشبهني. كنت ستُسر كثيرًا برؤية حفيدتك التي تشبه ابنتك. أغبط إخوتي لأنك رأيت أبنائهم.  

أفتش عن صورك لأتأمل في ملامحك بعد أن كُنت أمامي طيلة الوقت، وأندم على أنني لم ألتقط صورًا لك بما فيه الكفاية. لديّ كاميرا في جوالي الذي أحمله معي دائمًا، لم يكن بالأمر الشاق، فلِم لم أفعل؟ أُنقّب عن صور لك بين الأجهزة لعل هناك صورة منسية. تخيلت يومًا السيناريو الذي يخبرنا عن توقف الأجهزة الإلكترونية عن العمل، فسارعت إلى طباعة صورًا لك خوفًا من ضياعها.  

احتفظت بآخر رسالة صوتية منك إليّ ووزعتها بين حساباتي الإلكترونية خشية التلف، وحفظتها بصيغ متعددة.  

استحضر دومًا مواقف لك وحركات كنت تقوم بها، ضحكك وغضبك وطريقة كلامك بل وحتى قرائتك لسورة الفاتحة. دوّنت كلمات لك كنت ترددها خشية الضياع. لا أريد أن أنساك. النسيان يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وأنا أخشى أن أنساك يا أبي. “وعينا أبي ملجأٌ للنجومِ.. فهل يذكرُ الشرقُ عيني أبي؟”

أُسّر كثيرًا بهطول المطر على المدينة رغم أنني لستُ فيها، كنت تحب المطر يا أبي. كيف حالُك؟ هل يصلك المطر؟ 

يتملكني الحزن عندما أتناول الرُطب. في الصيف تذكرتُ حبك له فصرت أدعو الله أن يُطعمك من رُطب الجنة. يتمزق قلبي حزنًا كلما تذكرت أن جسدك الرقيق تحت الأرض. كيف تجرأوا أن يحثوا فوق وجهك الجميل التراب؟

هكذا كان بعضُ حالي لهذا العام، وأنت كيف حالك ياأبي؟ كيف مضى عامك؟ كيف هو حر المدينة؟ كيف هو القبر؟ هل أنت وحيد؟ كنت تخبرنا أنك يتيم لا تذكر أباك وتحكي لنا عن أمك كثيرًا، فهل أنت معهما الآن؟ كنتُ أخشى الموت لأنه مجهول، أصبحت لا أخشاه لأنك هناك. 

صدق من قال”الأبناء نيام، فإذا مات الآباء انتبهوا“. انتبهتُ قبل عام من حلم رائع. كنتَ حلمًا رائعًا يا أبي. رحمك الله وجمعني بك في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

فيا قبرَ الحبيب وددتُ أني .. حملتُ ولو على عيني ثراكا