كنتُ أسخر من هؤلاء الذين يؤكدون أن شهر شعبان هو شهر تكثر فيه حوادث الوفاة وأخبرهم بأن الموت يحوم حول أشهر السنة، ولكنهم يُثبتون تركيزهم على شعبان فتظهر لهم العجائب. سخرت مني الأيام ومات والدي في هذا الشهر قبل عام.
أمضى عام على وفاتك يا أبي؟ كيف كان عامك؟
هكذا كان عامي، ثقيلًا مُتعِباً.
ثقيلة تلك الأيام التي تُذّكرنا بأنها الأُولى بدونك: أول رمضان لم تصمه معنا، أول عيدٍ لم تكن فيه بيننا، أول اجتماع عائلي من غيرك ..
مُتعبة تلك الليالي التي ما إن اتخذ فيها مضجعي حتى تداهمني الذكريات، فأبحث عنك بينها لعل لقاءً في المنام يكونُ.
أمسيتُ أسمعك تناديني في أحلامي فأركض إليك قبل أن يتلاشى صوتك فانتبه لأجدني غارقة في دموعي. أراك في منامي أخيرًا لكني ما ألبث أن استيقظ لأجد نفسي متضاربة بين الفرح والحزن، الفرح برؤيتك والحزن لأنه كان حلمًا. أصبحتَ حلمًا فقط يا أبي كما كنت حقيقة قبل عام. كنتَ تخبرني “أمي صارت حلم، والفيروزية حلم، وحياتي كلها حلم وبكرة أبوكي حيصير حلم” وها أنت الآن وقد صرتَ حُلمًا.
استحضر يومًا من أيامنا الروتينية في ذلك المنزل الجميل لأجدها أوقاتًا في غاية الروعة. لمِ لم أكن أدرك قيمة تلك الأيام؟
كيف حالُك يا أبي؟
أصبحت لدي ابنة جميلة يا أبي. ألاعبها وأخبرها بأن جدها لو رآها لأحبها. أخبروني بأنها تشبهني. كنت ستُسر كثيرًا برؤية حفيدتك التي تشبه ابنتك. أغبط إخوتي لأنك رأيت أبنائهم.
أفتش عن صورك لأتأمل في ملامحك بعد أن كُنت أمامي طيلة الوقت، وأندم على أنني لم ألتقط صورًا لك بما فيه الكفاية. لديّ كاميرا في جوالي الذي أحمله معي دائمًا، لم يكن بالأمر الشاق، فلِم لم أفعل؟ أُنقّب عن صور لك بين الأجهزة لعل هناك صورة منسية. تخيلت يومًا السيناريو الذي يخبرنا عن توقف الأجهزة الإلكترونية عن العمل، فسارعت إلى طباعة صورًا لك خوفًا من ضياعها.
احتفظت بآخر رسالة صوتية منك إليّ ووزعتها بين حساباتي الإلكترونية خشية التلف، وحفظتها بصيغ متعددة.
استحضر دومًا مواقف لك وحركات كنت تقوم بها، ضحكك وغضبك وطريقة كلامك بل وحتى قرائتك لسورة الفاتحة. دوّنت كلمات لك كنت ترددها خشية الضياع. لا أريد أن أنساك. النسيان يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وأنا أخشى أن أنساك يا أبي. “وعينا أبي ملجأٌ للنجومِ.. فهل يذكرُ الشرقُ عيني أبي؟”
أُسّر كثيرًا بهطول المطر على المدينة رغم أنني لستُ فيها، كنت تحب المطر يا أبي. كيف حالُك؟ هل يصلك المطر؟
يتملكني الحزن عندما أتناول الرُطب. في الصيف تذكرتُ حبك له فصرت أدعو الله أن يُطعمك من رُطب الجنة. يتمزق قلبي حزنًا كلما تذكرت أن جسدك الرقيق تحت الأرض. كيف تجرأوا أن يحثوا فوق وجهك الجميل التراب؟
هكذا كان بعضُ حالي لهذا العام، وأنت كيف حالك ياأبي؟ كيف مضى عامك؟ كيف هو حر المدينة؟ كيف هو القبر؟ هل أنت وحيد؟ كنت تخبرنا أنك يتيم لا تذكر أباك وتحكي لنا عن أمك كثيرًا، فهل أنت معهما الآن؟ كنتُ أخشى الموت لأنه مجهول، أصبحت لا أخشاه لأنك هناك.
صدق من قال”الأبناء نيام، فإذا مات الآباء انتبهوا“. انتبهتُ قبل عام من حلم رائع. كنتَ حلمًا رائعًا يا أبي. رحمك الله وجمعني بك في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
فيا قبرَ الحبيب وددتُ أني .. حملتُ ولو على عيني ثراكا