كان غير شكلِ الليمون – تدوينة في حب الليمون

اعتادت عائلتي على استخدام ليمون ”بن زهير“ الأخضر كدواء لكل داء. ”إنه أفضل من المضاد الحيوي“ كما تقول أمي.

هل تشعر نجلاء الصغيرة بألم في حلقها؟ ستشرب عصير الليمون بن زهير الدافيء المخلوط مع العسل والمكونات السرية. هل عطست نجلاء الصغيرة؟  بضع قطرات من بن زهير على الريق كافية بحل الأمر. هل ظهر حب الشباب على وجهها؟ سنفرك بن زهير على الحبوب حتى تُفقع. ولأهميته الصحية، كثيرًا ما شربناه مع طعام الغداء عصيرًا مخلوطًا مع النعناع المديني، ونهرع إلى شربه سريعًا حتى لا يصبح طعمه مُرا.

كانت لدينا شجرة بن زهير كبيرة وكريمة تتوسط حديقة منزلنا وكأننا نصرح علانية بأننا مدينون لهذه الشجرة. لا نبتاع من الليمون إلا ليمون بن زهير فقط. أذكر أنني تعجبت من رؤية الليمون الأصفر عند أحد أقاربي، وتمنيت أننا لو نشتري منه فهو أجمل شكلًا وأسر للعين بلونه وامتلاءه من الأخضر الصغير. كانت عمتي رحمها الله تُجيد إعداد مخلل الليمون وإهداء برطمانات منه إلى العائلة، وكان طعمه مميزًا ورائعًا عندما نتناوله مع البف المديني أو نضيفه إلى شوربة الحب. 

كبرتُ وتعلق قلبي بعائلة الليمون، لكنني خلال فترة الغربة لم أجد ليمون بن زهير إلا نسخة كبيرة منه وهو ما يُدعى بالإنجليزية ”لايم“ ويستخدمه المكسيكيون في أطباقهم، ولا يمُتّ لبن زهير إلا بلونه، بل إنه قاسي عند الضغط وشحيح العصير. اشتريتُ شجرة ليمون صغيرة ووضعتها بداخل شقتي أمام النافذة لعلها تذكرني بشجرة بن زهير في المدينة لكنها لم تصمد طويلًا أمام شمس مونتريال الباردة.

تعرفتُ في مونتريال على مقهى جميل يُقدّم أطباقًا ومشروبات فارسية، ومنها عصير الليمون الدافئ الذي كانت تعده أمي مع وصفتها السرية. علمتُ أن تسمية ”بن زهير“ هي في الأصل فارسية تعني ”المضاد للسم“. إذن كانت أمي محقة، فهو أفضل من المضاد الحيوي!

تعلمتُ أن أهل الأحساء يفتخرون بالليمون الحساوي لديهم- اللومي أو بن زهير- ويقطفونه مع موسم الخلاص. بل شاهدتُ فيديوهات ممتعة على تيك توك يستعرضون فيها طريقة تحضريهم لليمون وتعبئته في زجاجات الفيمتو ثم وضعها أمام الشمس للتعتيق، ويستخدمونه لاحقًا مع الحساء أو الإيدامات، والمُلك لله.

سافرتُ إلى ساحل أمالفي أرض الليمون في إيطاليا، واندهشتُ للغاية من رائحة الليمون المنعشة في كل مكان. كنت أعيش في الأحلام وأنا أشاهد شجر الليمون في كل مكان، وكنت في قمة سعادتي عندما تناولتُ طعام الغداء تحت أشجار الليمون في كابري. أترككم مع الصور:

 

هنا طبق من الباستا المعدة بالليمون، وآيسكريم بالليمون بداخل الليمون. 

مخرج:

قصة الشتاء

11
في الصف الرابع الإبتدائي، سألتنا مدرسة اللغة العربية عن أمنياتنا. تراوحت الأمنيات ما بين الألعاب والتطلعات المستقبلية. أما نجلاء الصغيرة فقالت أنها تتمنى أن ترى الثلج يتساقط وتمسكه بيدها. أخفت مدرسة اللغة العربية ضحكتها على هذه الأمنية بلطف. تمر السنوات وتعيشُ نجلاء سنوات طويلة في مدن يتساقط فيها الثلج بكثافة، نهاية سعيدة؟

أكتبُ هذه التدوينة خلال شتاء الرياض وأنا سعيدة بالأمطار والجو البارد. أحبُ فصل الشتاء كثيرًا لأنني أستطيع أن أمشي بالخارج دون اتقاء لهيب أشعة الشمس. السُحب ضيف عزيز علينا، وثقيل على الأجانب. وفي هذا أذكر بطوط عندما كان يستيقظ فرحًا من النوم ويقول ”اليوم مشمس!“ وأتعجب. لم أدرك هذا المعنى إلا عندما عشتُ بالخارج. أما نحن هنا فنقول ”السماء مُلبّدة بالغيوم!“ ونستبشر بالأمطار

وأحبُّ ما يكونُ إلى العربِ الغيثُ، فلهذا يتذكرون به الأحبابَ، ويحنّون عنده إلى الأوطان، ويتمنونه حتى لرممهم وأمواتهم، وإن كان لا يُسمنهم ولا يُغنيهم من جوع، غير أنهم يحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، وذلك بهم غاية الأماني. وقد قال شاعرهم


وَمَا السُّقْيَا لِتَبْلُغَهُ وَلَكِنْ .. أُحِسُّ لَهَا بَرَاداً فِيْ فُؤَادِيْ

هل لنا طقوس في فصل الشتاء؟

لدى الأوروبيين تصنيف للروايات الطويلة باسم روايات المدفأة، وهذا يعني في غياب الأنشطة والُملهيات الخارجية في ذلك الوقت كان البعض يختار روايات طويلة يقرأها في فصل الشتاء أمام المدفأة. كذلك يزينون الشوارع لديهم استعدادًا للكريسمس (متعة بصرية)، وتسمع دندنة الأغاني المخصصة لها في كل المحلات (متعة سمعية)، وتشم رائحة كعك الزنجبيل (متعة شمية) ويتناولون الكوكيز واللحم الرومي (متعة تذوقية).ه

أما العرب فيستعدون لفصل الشتاء ويعدون له العدة، وفي هذا يتحسّر ابن الرومي بقوله ”جاء الشتاء ولم يعدد أخوك له..“.
نُفرز الملابس ونرفع القطع الصيفية عن ناظرنا، ونُجهز الشتوية ذات الأكمام الطويلة والخامة الثقيلة والفرو والبطانيات الدافئة. نجتمع حول الحطب (متعة حسية وشمية)، ونشرب السحلب والشاي العدني والشوكولاتة الساخنة والحليب بالزنجبيل ونأكل القشد والكستناء والفقع (متعة تذوقية)، والبعضُ يستمع إلى أنشودة المطر (متعة سمعية)

ومنذُ أن كُنّا صغارًا، كانت السماءُ تغيمُ في الشتاء.. ويهطلُ المطر

لكن بعيدًا عن شاعرية المتع الحسية، من الملاحظ أن قسوة الشتاء لدى الأجانب كقسوة الصيف لدينا، فمن الطبيعي أن يكسو التشكي من الشتاء أدبهم وأغانيهم بأسلوب درامي. وإذا كانوا يقولون
you warmed my heart

أدفئتَ صدري، فإن تعبيرنا لهذه الجملة قد تُرجم إلى أثلجتَ صدري. انظر إلى فانتين في البؤساء وهي تقول


فصلٌ مريع! إن الشتاء يحول قلب المرء إلى حجر!ا



أو روستوف في الحرب والسلم عندما جاء الشتاء الروسي في الحرب وهو بعيدٌ عن منزله، نظر إلى حبات الثلج وهي تتساقط فوق الماء وتذكر الشتاء الروسي في منزله الدافئ مرتديًا معطف الفرو.. ثم تعجّب ”لماذا أنا هنا؟“؟

أما جورج آر آر مارتن مؤلف أغنية الجليد والنار والتي تحوّلت إلى مسلسل قيم أوف ثرونز، فكان يحذّر بشكل درامي من أن الشتاء قادم. والشاعر الفرنسي تشارل بودلير كان يعتزل الناس ويكتب

عندما يضع الشتاء وجهه العجوز أمام النافذة، سوف أغلق كل النوافذ، وأقفل الستائر، وأبني قصوري من ضوء الشموع.ا

أما نحنُ فيقول عبدالمجيد عبدالله: حيّ الشتا وحيّ ما جابه، ويرقص الناس عليها وكأنها طقس من طقوس الترحيب بالشتاء.ه

مخرج:
قصة المعطف لغوغول
بودرة الشوكولاتة لمشروب شوكولاتة ساخنة من نوماد
أغنية Let it Snow: Dean Martin

هل تحلمون من خلال النظر إلى خارج النافذة؟ – تدوينة عن الشبابيك 

Monica Garwood

كانت العرب تُرسل أبنائها إلى البادية، وقد اختلفت الآراء حول سبب إرسالهم بعيدًا عن أمهاتهم، فمنهم من يقول حتى يستقيم لسان الطفل ويصبح فصيح اللسان، وهذا يبدو غير صحيحًا لأن قريش هي أفصح العرب بنزول القرآن على لهجتهم. ومنهم من يقول حتى ينشئ الأطفال على الشجاعة والنشاط والقوة البدنية خارج المدن وأمراضها. تعددت الآراء، أما الرأي الذي توقفتُ عنده طويلًا فهو أن البادية ليست مكتظة بالعمار، وهي صحراء ممتدة تجعل المرء ينظر بعيدًا حتى تتسع مداركه دون أن يتوقف نظره عند جدران المباني، وأنّى للأفكار أن تُستلهم بالنظر إلى الجدران؟

كانت غرفتي في المدينة تُطل على شارع الملك عبدالعزيز ذو عرض ٦٠ مترًا، فنشئت نجلاء الصغيرة على أصوات الحركة المرورية المستمرة حتى ظنت أن هذا هو الأصل عند النوافذ.


وعندما سافرتُ إلى الخارج، كنتُ محظوظة إذ كان مطل منزلي في شيكاغو على وسط المدينة وبرج سيرز تاور، وفي مونتريال كانت الشبابيك الواسعة تطل على جبل مونت رويال.

انتقلتُ بعد سنوات إلى الرياض، وحرصتُ على أن تكون الشبابيك كبيرة وذات مطل أتأمل فيه كما تتأمل روبنزل من نافذتها منتظرة الإنقاذ. دخلتُ بيوتًا كثيرة معروضة للإيجار من أجل اختيار البيت ”الأكثر مثالية“ وكان بعضها مرتبًا لكني كنت أرفضها رفضًا قاطعًا من أول نظرة على الشبابيك، لأن بعضها كان إما صغيرًا مُهملًا أو مُطلًا على ”المنور“. كنتُ أحس بالضيق -وأنا مجرد زائرة- وكأني بداخل علبة تونة، كما أحس بالضيق عندما أركب سيارة ذات نوافذ مظللة بالسواد. توفقتُ بعدها في الحصول على شقة تطل على دوّار تفحط فيه السيارات وكأنني استعدتُ شيئًا من ذكريات الطفولة.


إذا كانت غرفة واحدة قادرة على تغيير مشاعرنا، وإذا كان ممكنا أن تتوقف سعادتنا على لون الجدران أو شكل الأرض، فماذا يحدث لنا في أكثر الأماكن التي نجد أنفسنا مضطرين إلى الإقامة فيها أو النظر إليها؟ وما الذي نعيشه في بيت له نوافذ أشبه بنوافذ سجن وأرض مبقعة وستائر بلاستيكية؟ – الآن دو بوتون، عمارة السعادة

وكما أحب تأمل الأبواب، أحب أيضًا تأمل نوافذ البيوت. وأجد نفسي أشفق على أهل بيت ذو شبابيك ضئيلة. يقولُ جفري كبنس وهو ناقد معماري كان أستاذًا في هارفرد، وله مادة في برنستون يُدرّس فيها عن النوافذ ”إن النوافذ تحمل فلسفة وجودية وليست مجرد وظيفة معمارية.. هل تعلم لماذا تكون النوافذ والأبواب ضخمة في الكاتدرائيات؟ أنت تترك العالم الاعتيادي وتدخل عالم الرب، فتشعر بأنك صغير للغاية، وهذا هو سبب ضخامتها“. هل هذا يعني أن الشبابيك الضخمة في غير الكاتدرائيات قد تُشعرنا بأننا في عالم الرب ولذلك نشعر بالراحة؟

إذن للنوافذ فلسفة وجودية كما لها وظيفة معمارية، هي تسمح للهواء وضوء الشمس بدخول المنزل، كذلك هي نافذة لنا للعالم الخارجي كما كانت تعتمد عليها ”أمينة“ في ثلاثية نجيب محفوظ، إذ أنها لا تخرج إلى الشارع، ولا تعرف ما يجول فيه إلا من خلال النظر إلى نافذتها. وقد تكون النافذة منفذًا للأحزان كما فعل أدهم في أولاد حارتنا عندما ”حوّل رأسه إلى النافذة فخيّل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبُعدهم عن هذا البيت“. أو قد تكون النافذة منفذًا للعشاق، كما في ”جولييت“ شكسبير أو ”إما“ مدام بوفاري، أو ”ماريوس“ في البؤساء عندما كان يقرأ متكئًا إلى النافذة المفتوحة. وكما يقول العشاق في الفلكلور اللبناني”ومن الشباك لرميك حالي”.

وبذكر الأدباء، فقد تأثر فلوبير حتمًا بالنوافذ، إذ كانت غرفته التي يكتب فيها رواياته لديها ٦ نوافذ تطل على الحديقة وعلى نهر السين! وكانت فرجينيا وولف تكتب بجانب نافذة كبيرة مطلة على الحديقة. أما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فكان يتعبدُ في غار حراء وهو مكان مرتفع – ٦٣٦ مترًا!- بعيد عن الناس له فتحة كالنافذة تُطل على الكعبة. 

”إن الفائدة من التحديق خارج النافذة لا تكمنُ في اكتشاف ما يحدث بالخارج، ولكن بالأحرى لاكتشاف محتويات أذهاننا. من السهل أن نتخيل أننا نعرف ما نفكر به وأننا ندرك ما نشعر به وما يدور في أذهاننا، لكننا نادرًا ما نعرف ذلك. هناك مقدار ضخم من الأمور التي تجعلنا ما نحنُ عليه والذي يمتد بشكل غير مُكتشف وغير مستخدم وتكون إمكانياته غير مستغلة. هذا المقدار الضخم خجول ولا يظهر تحت ضغط الاستطلاع المباشر. إن التحديق خارج النافذة يقدم لنا طريقة لأن نكون متيقظين إلى الإيحاءات والانطباعات الأكثر هدوءًا لذواتنا العميقة. قدّم أفلاطون استعارة للعقل: إن أفكارنا مثل الطيور التي ترفرف في أقفاص عقولنا، ومن أجل أن تستقر هذه الطيور، فهم أفلاطون أننا بحاجة إلى أوقات فراغ هادئة. والتحديق خارج النافذة يقدّم هذه الفرصة“.

مخرج:
أغنية شبابيك لفايا يونان
تدوينةالأبواب

وما الخوفُ إلا ما تخوّفه الفتى: تدوينة عن الخوف

 

The Scream by Edvard Munch


يقال أن الإنسان يُولد ولديه خوف من أمرين فقط: الخوف من الصوت العالي، والخوف من السقوط، وكل خوفٍ بعد ذلك مُكتسب من بيئته.

في طفولتي كنت أخافُ من الظلام كثيرًا، لا أعلم كيف تكوّن هذا الخوف لديّ لكن من المؤكد أن القصص التي كنا نسمعها أو نرويها لبعضنا كأطفال في آخر الليل عن الجن والكائنات غير المرئية هي التي زرعت هذا الخوف في قلبي. كنت أعتقد دائمًا بأن هناك كائن ما ينتظرني في الظلام بتعابير وجهه المخيفة. أذكر جيدًا الأيام التي هربت فيها من سريري متجهة نحو أمي التي اعتادت أن تجدني نائمة تحتها عندما تستيقظ فجرًا. لكن نجلاء الصغيرة أيقنت بطريقة ما أن التغلب على الخوف يكمُن في مواجهته. فماذا فَعلَت؟ 
ذات يوم، وعندما استيقظَت هلعًا من النوم في منتصف الليل نزلت بمفردها إلى الدور السُفلي حيث الصوالين الواسعة الغارقة في الظلام الدامس. كانت تجربة رهيبة، دارت على الدور كله وهي تُضيء الأنوار لتُؤكد لنفسها أن لا أحد هناك. كررَت هذه التجربة يومًا بعد يوم حتى تلاشى خوفها من الظلام. أصبحت نجلاء الصغيرة أكثر حكمة، ألم يقل برتراند رسل ”بداية الحكمة أن تهزم الخوف“؟



الخوف تجربة نفسية أليمة، لذلك أهل الجنة (لا خوفٌ عليهم..)

كبرتُ قليلًا، وعندما حان الوقت لمشاركة المناسبات التي يجتمع فيها الكبار كنت دائمًا فيها الشخص الأصغر. وبما أن أصغر القوم خادمهم، ومبادرة مني تكريمًا للمديح الذي وصلني من أول القادمين بقولهم ”آه كم كبرتِ“، تطوعتُ للمرة الأولى لصب القهوة وليتني لم أفعل. كانت دلة أهلي المُذهّبة ثقيلة للغاية، ومن أجل أن أصب القهوة كان عليّ أن أرفع الغطاء قليلًا بالضغط على قطعة خلف الغطاء باصبعي أثناء الصب لترتفع إلى أعلى وبالتالي تُفتح كالفم – وليس بضغطة زر كما هو حال الدلال اليوم أو بإدارة الغطاء قليلًا لفتحه-، وبالتالي نتج عن ذلك سكب القهوة على يدي. 
اعتذرتُ بأن الدلة بها عيب ولم تكن حرارة القهوة بأشد من حرارة الخجل التي كنتُ أشعر به. حاولتُ للمرة الثانية أن أصب القهوة لكن النتيجة أيضًا باءت بالفشل. وهكذا أصبح لديّ خوف جديد: صب القهوة أمام الناس.
 أصبحتُ لا أحب الولائم أو التجمعات التي كانوا يُقيموها أهلي في منزلنا لأنني كنتُ الفرد الأصغر، وهذا يعني أنه يتحتم عليّ أن أساعد أمي في خدمة الجميع واضطر إلى تقديم القهوة. ومع حبي للناس، كنتُ أشعر بالضيق في اليوم الذي يُعلن فيه عن قدوم ضيفٍ جديد، ولكنني أشعر بالخفة عندما ننتقل إلى تقديم طعام العشاء ثم الشاي. إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه نجلاء المراهقة تقليد نجلاء الصغيرة بتجربة الحل الوحيد: مواجهة الخوف.

عندما قرر والدايّ إقامة طعام العشاء، ذهبتُ يومها إلى مطبخ الضيوف وتفحصتُ جميع الدلال الموجودة لأول مرة بعيدًا عن الدلة المشؤومة. هذه دلة جميلة فيها زر دائري كبير اضغط عليه ثم تخرج القهوة ..ببساطة. هكذا إذن! يا الله .. الدنيا بها حلول كثيرة لم نكن نتخيل بوجودها.. بالطبع لم أكن سأعرف هذا الحل لولا أنني لم أواجه المشكلة التي أجهل تفاصيلها، والإنسان دائمًا عدو ما يجهل.

كيف هي تجاربكم مع الخوف؟ يُقال أنكم تستطيعون التعرف على ذواتكم من خلال معرفة ما يخفيكم في هذه الحياة. أغلب الأمور التي نخافها نُدرك لاحقًا أو في مرحلة متأخرة مع الأسف أننا عظّمنا من شأنها.

”كانت لديّ الكثير من المخاوف في حياتي، معظمها لم تحدث“ -مارك توين 


هل واجهتهم مخاوفكم؟ وجدتُ بعض النصائح العملية من تيم فيريس قد تساعدكم في مواجهة الخوف خاصة في اتخاذ القرارات:

١- حدد كابوسك: حدد أسوأ أمر قد يحصل لك عندما تفعل ما تخافه. ما هي الشكوك والمخاوف والأمور التي ”قد“ تحدث عندما ترغب في اتخاذ قرار ما أو تغيير كبير؟ تصوّر ذلك في تفاصيل دقيقة ومؤلمة.
هل سيكون ذلك نهاية حياتك؟ 
ترى ما هو التغير الدائم الذي سيحدث، إذا كان هناك تغير أصلًا، على مقياس من ١ على ١٠؟

هل هذه الأمور المتغيرة هي حقًا دائمة؟
ما هي احتمالية حدوثها في نظرك؟

٢- ما هي الخطوات التي من الممكن أن تتخذها لإصلاح الضرر أو لإرجاع الأمور إلى نصابها حتى ولو كان ذلك بشكل مؤقت؟ 
إن الفرص أسهل مما تتوقع. كيف تستطيع أن تُعيد الأمور لتكون تحت السيطرة مرة أخرى؟

٣- ما هي النتائج أو الفوائد الدائمة والمؤقتة من السيناريوهات المتوقعة؟ أنت الآن قد حدّدت الكابوس، فما هي النتائج الإيجابية التي تحمل احتمالية عالية لوقوعها؟ سواء كانت النتائج داخلية (الثقة، أو تقدير الذات..الخ) أو خارجية. ما هو التأثير المتوقع الذي يمكن أن يحدث على مقياس من ١ على ١٠؟ كم هي احتمالية إنتاجك لنتيجة إيجابية؟ هل استطاع الآخرون الأقل ذكاء منك أن يفعلوه وينجحوا في ذلك؟

٤- إذا طُردت من عملك اليوم، ما الذي تستطيع أن تفعله لتجعل الأمور تحت السيطرة المادية؟ تخيّل هذا السيناريو واطّلع على الأسئلة الثلاثة السابقة. إذا استقلت من عملك لاختبار الخيارات الأخرى، كيف ستعود إلى طريقك المهني إذا وجب عليك ذلك؟

٥- ما الذي تؤجله بسبب الخوف؟ في العادة، الأمور التي نخاف أن نفعلها هي الأمور التي نحتاج أن نفعلها. تلك المكالمة الهاتفية، أو ذلك الحوار، أو غيرها من الأمور. إن الخوف من النتائج المجهولة هو ما يمنعنا من فعل ما نحتاج أن نفعله. حدد أسوأ حالة من الممكن أن تحدث لك وتقبّلها ثم افعلها. سوف أكرر عليك أمرًا تحتاج أن تُوشمه على جبينك: 
ما نخاف أن نفعله هو في العادة ما نحتاج أن نفعله.

وكما قيل إن نجاح المرء في الحياة يمكن أن يُقاس بعدد الحوارات غير المريحة التي يرغب في إجرائها. خطط في كل يوم أن تجرب أمرًا واحدًا تهابه. اكتسبتُ هذه العادة من خلال محاولتي في التواصل مع المشهورين في الأعمال وغيرهم لأجل أن اسألهم عن نصيحة يقدموها إليّ.

٦- ما الذي سيكلفك – ماديًا وعاطفيًا وجسديًا- إذا أجّلت العمل؟ لا تُقيّم الجانب السيء من العمل فقط. من المهم أن تقيس الثمن السيء لعدم العمل. إذا لم تُكمل الأمور التي تُثيرك، فأين ستكون بعد سنة، أو ٥ سنوات، أو ١٠ سنوات؟ كيف ستشعر لأنك سمحت للظروف أن تسيطر عليك ولأنك سمحت لعشر سنوات من حياتك أن تمر وأنت تفعل أمرًا تعلم جيدًا أنه لن يحقق لك شيئًا؟ إذا نظرت إلى ١٠ سنوات من خلال التيليسكوب وتأكدت ١٠٠٪ بأن هذا الطريق هو طريقٌ للخيبة والندم، وإذا عرّفنا الخطر بأنه ”احتمالية حدوث نتائج سلبية لا رجعة فيها“، فإنه يمكننا القول بأن ”عدم الفعل“ هو الخطر الأعظم على الإطلاق.

٧- ما الذي تنتظره؟ إذا لم تستطع إجابة هذه السؤال فإن الإجابة هي بسيطة: أنت خائف، مثل بقية الأشخاص في العالم. قِس تكلفة عدم العمل، وحاول أن تستوعب عدم احتمالية وقابلية إصلاح الخطوات المتعثرة، وطوّر العادة الأكثر أهمية لهؤلاء الذي ينجحون ويستمتعون بالنجاح: الفعل.

مخرج:
الهلع من إغلاق البوابة: كلمة ألمانية، وتعني  الخوف الذي يشعر به المرء عندما يتقدم بالسن، عندما يشعر أن الوقت يمضي بسرعة وبالتالي تفوته فرص كثيرة.
– رواية الخوف لستيفان زفايغ
– تدوينة: الخوف من الجراثيم
– تدوينة: الخوف من أن لايحتاجنا أحد

 

 

 

 

 

 

 

 

مجلات ميكي وماجد

 

”يمكننا القول إن تزجية أوقات الفراغ في الطفولة السعيدة تتلخص في قراءة مجلات ميكي وماجد، ومشاهدة أفلام الكرتون، وتناول آيسكريم كرز بالفانيليا“. 

مجلة ماجد 

في طفولتي، كانت أمي تبتاع لنا مجلات ميكي المصرية -وأعني بالمصرية، التي تصدر من مصر- وكانت المجلات تُباع بشكل غير منتظم، أي أنك تستطيع أن تشتري مجلدات بتواريخ قديمة وجديدة. وكانت أمي في بعض الأحيان تشتري لنا مجلة ماجد. وعندما علمتُ بأن مجلة ماجد تصدر بانتظام كل يوم أربعاء وسعرها ٤ ريالات، ادّخرت من مصروفي اليومي- ٣ ريالات- ريالًا واحدًا كل يوم حتى أتمكن من شراء المجلة يوم الأربعاء. كنتُ أعطي السائق ٤ ريالات فيذهب إلى بقالة (ميد) ويشتري لي المجلة. كانت فرحة الانتظار جميلة وكأنني أترقّب مسلسلي المفضل. اقرأ المجلة من الغلاف للغلاف، واحرص على قراءة مشاركات الأصدقاء كما القصص. كنت أحب حكايات شمسة ودانة اللتين كانتا تسكنان جزيرة لوحدهما مع السلحفاة سلمى، والصقر منصور. كانت دانة تحب الرسم والفنون:

أما شمسة فكانت تحب الطبخ:

وهنا تتعلم دانة استخدام الكمبيوتر لأنها ستكون في حالة تخلف إذا لم تستعد وتتعلم، تمامًا كما الدعوات إلى تعلم البرمجة في هذا الوقت:

كنت أدخل في تحدي مع نفسي وأنا اقرأ القصص لأبحث عن فضولي، ثم أشارك بقلمي في حل الكلمات المتقاطعة. كانت مجلة ماجد تقطع لنا وقت فراغنا في أيام كانت مسلسلات الكرتون محددة بوقت العصر. 

مع ذلك، كنتُ أفضّل كثيرًا مجلات ميكي المصرية عليها. ففي قصص بطوط وأبناء أخيه الثلاثة والعم دهب وكل عائلة البط من الإبداع والمرح ما يجعلني أقرأ القصة الواحدة مرات عديدة من حين إلى آخر. وكنتُ في طفولتي أتمنى أن أعيش في مدينة البط 🙂
وبينما كان والدي رحمه الله وأمي يجدان في مجلات ميكي وماجد مضيعة للوقت، كنتُ أحاول أن أشرح لهما بأنني بالفعل استفدتُ الكثير من هذه المجلات. ففي سن صغيرة، عرفتُ من خلال هذه القصص وحدها معالم وأماكن حقيقية مثل ماتشو بيتشو والأهرامات الثلاثة وبرج بيزا المايل وبركان فيزوف في إيطاليا -والتي كانت الساحرة سونيا ترغب في رمي قرش الحظ فيه- وتعرفتُ من خلال مغامرات عم دهب والكشّافة على المومياءات المتحنطة وأشخاصًا مثل الكسندر جراهام بل -عندما كان بندق يمثله- ودافنشي وغيرهم، وأمورًا أخرى كثيرة من تجارب الحياة، هذا غير أن مشاركات الأصدقاء كانت تحوي على الكثير من المعلومات التاريخية والعلمية، ثم أنها جعلتني أحب القراءة. 

هنا مثلًا قصة لأنطوان تشيخوف باسم موت موظف (أو الرجل الذي عطس مرتين)

أما هنا فقصة مستوحاة من الليلة الثانية عشر لشكسبير كما أعتقد:

وهنا قصة جميلة عن أهمية القراءة والكتابة:
وقصة حقيقية دارت أحداثها في ليبيا أيام الإحتلال الإيطالي لها:

ثم قصص مثل هذه تجعلك تحرص على إدراك طبيعة الأشخاص من حولك:

ثم انظروا كيف كانت تجعلنا مجلة ماجد على اطلاع مع أخبار العالم، هنا بعض من أخبار مونديال كأس العالم ١٩٩٤:

مجلة ميكي الإماراتية

في يوم من الأيام، دخلت أمي علينا بالعدد الأول أو الثاني من مجلة ميكي قائلة أنها مجلة جديدة الإصدار من الإمارات. كم سعرها؟ ٦ ريالات! كان سعر مجلة ماجد ٤ ريالات فقط. أما القصص فقليلة، وكانت الصفحة الواحدة تحتوي على مربعات كبيرة من الحوارات وبالتالي عددها قليل (بينما الإصدار المصري يحتوي على مربعات أكثر في الصفحة الواحدة). أُعجبت بالمجلة لأن الورق كان فاخرًا وملونًا، بينما الإصدار المصري كان يحتوي على صفحتين ملونة وصفحتين بالأبيض والأسود وهكذا. أما بعض الشخصيات فقد تغيّرت أسمائها، فزيزي أصبحت بطوطة، وسوسو ولولو وتوتو أصبحوا كركور وفرفور وزرزور، وميمي أصبحت ميني. لا بأس. صرتُ اقرأ المجلة من الغلاف للغلاف، حتى كلمة مديرة التحرير نجوى آل رحمة.

مع مرور الأيام أصبحت المجلة ب٧ ريالات، ومع النجاح الذي حققته هذه المجلة في الخليج، أصبحت هناك إصدارات عديدة مثل إجازة مع ميكي، ومدينة البط (التي كانت تحتوي فقط على قصص البط مثل بطوط والعم دهب مع عصابة القناع وزيزي ومحظوظ وعبقرينو)، والتي كانت ب٢٠ ريالًا! يُرجى الملاحظة أن المجلات مثل سيدتي في ذلك الوقت كان سعرها ١٠ ريالات فقط، وكانت مجلة “هي” والتي تُعتبر مجلة تتحدث عن آخر أخبار الأزياء الفاخرة تصدر مرة في الشهر ب٣٠ ريالًا. 

مجلة ميكي المصرية

أحببتُ الإصدارات القديمة من مجلة ميكي المصرية، والتي كانت تحتوي على قصص مطولة. أما قصصها فالكثير منها كان الحوار فيه يدور بالفصحى مع إدخال اللهجة المصرية أحيانًا، فكانت الحوارات “خفيفة دم” للغاية.

هنا بطوط مع جاره:

 وهنا مع زيزي:


مع زيزي مرة أخرى:

ومن خلال القصص كانت تُغنّى الأغاني المصرية مثل يا ليلة العيد آنستينا لأم كلثوم:

غني لي شوية شوية لأم كلثوم، وزوروني في السنة المرة لفيروز: 
 

وهنا أبو حنفي يُغني أهواك وأتمنى لو أنساك لعبدالحليم حافظ

ياوردة الحب الصافي لمحمد عبدالوهاب:

أثّرت هذه القصص على نجلاء الصغيرة بالطبع، هنا تدوينة (مذكراتي العزيزة..) والتي أقتبستها من زيزي عندما كانت تكتب يومياتها:

كنت أتأمل صور اللوحات الفنية الموجودة في صفحات مجلات ميكي وماجد، ولم أدرك أنني سوف أشاهد بعضها على الطبيعة يومًا، هنا مثال للوحة أوجست رينوار:


 

وهنا اللوحة الأصلية في متحف الفن في شيكاغو:

وأنتم.. هل كنتم محظوظون وقرأتم مجلات ميكي وماجد؟ حدثوني في التعليقات عن شخصياتكم وقصصكم المفضلة.

مخرج – تدوينات سابقة تتحدث عن مجلات ميكي وماجد وتأثيرها على نجلاء الصغيرة:
كتابي الأول
كم بيضًا للحمام؟
ما الذي تريد أن تراه في منامك؟ 
لستُ صغيرة 

 

 

فنظر نظرة في النجوم

The Starry Night by Vincent van Gogh – لوحة ليلة النجوم، فان جوخ

في طفولتي، وبعد أن يعتريني التعب من اللعب في حوش المنزل أثناء المساء، كنت أتمدد على ظهري فوق الأرجوحة الطويلة، وأتأمل السماء. كان منظر النجوم اللامعة القليلة يبهرني. وكنت أجد هذا التأمل مشهدًا مقدسًا، حتى شاهدت تيمون وبومبا في فيلم الأسد الملك وهما يتأملان السماء المرصعة بالنجوم مع سيمبا:

– تيمون؟
– ايوا؟
– عمرك في مرة فكرت النقط المنورة اللي فوق دي تطلع إيه؟
– بومبا، أنا مابفكرش .. أنا عارف!
– طيب يطلعوا إيه؟

– دبان منور! دبان منور لازق في السجادة الزرقا اللي فوق ديه!
– عجبي .. دانا كنت زي انا ماحسبها كور غاز مولعة على بعد بلاييين الأميال!

كنت أتمنى أن أشاهد نجومًا كثيرة مثل تيمون وبومبا. لكنني تعلمتُ لاحقًا أن العيش في المدينة يحجب نور النجوم عنّا. سافرتُ بعد سنوات طويلة إلى إحدى جزر هاواي، وفي طريق السيارة في المساء في العتمة، نظرت إلى السماء فتعجبت من المنظر المهيب للسماء المتزينة بالنجوم.. سجادة زرقاء وكور غاز مولعة.

ما زلت أجدُ ذلك المنظر في ذاكرتي مهيبًا، ومع أنني سكنتُ الرياض منذ أكثر من ٣ سنوات إلا أنه لم تواتني فرصة الذهاب إلى البر بعيدًا عن أضواء المدينة حتى أشاهد النجوم الكثيرة مرة أخرى. 

نجد أن تأمل النجوم في السماء هو أمر شائع في الروايات العظيمة. وأنا هنا بصدد الحديث عن روايتين، البؤساء والحرب والسلم. ففي رواية البؤساء، نلاحظ أن جان فالجان قد رافقته النجوم منذ بداية البؤساء إلى نهايتها. وفي الحرب والسلم، نجد أن النجوم كثيرًا ما تطل علينا في أرض المعركة.

 لكن متى استخدم كلا من فيكتور هوغو وتولستوي مشهد التأمل في السماء والنجوم؟ 

١- كدليل على الحكمة من خلال التعبد لله والتأمل في ملكوته: انظروا كيف وصف فيكتور هوغو تأمل الأسقف في السماء بكلماته البديعة:
كان يجلس على مقعد خشبي مسند إلى عريشة مكسورة، وينظر إلى النجوم من خلال أشباح شجراته المثمرة.. وأي شيء أكثر من هذا كان يحتاج إليه ذلك الرجل العجوز الذي وزع ساعات فراغه بين البستنة في النهار، والتأمل في الليل؟ ألم تكن هذه الحظيرة الضيقة التي تؤلف السماوات سمكها، كافية لأن تمكنه من عبادة الله بالتناوب في مبتدعاته الأكثر جمالا وفي مخلوقاته الأكثر سموًا؟ أليس هذا كل شيء في الواقع؟ وأي شيء يُبتغى وراء ذلك؟ جُنينة يتمشى خلالها، وفضاء يتأمل فيه. فعند قدميه شيء يمكن أن يُزرع ويُجنى وفوق رأسه شيء يمكن أن يُدرس ويُطلق سرح التأمل فيه، بضع زهرات على الأرض، وجميع الكواكب في السماء.

وعندما أصبح ماريوس رجلًا، تأمل السماء:
”إنه يتأمل السماء، والمدى، والنجوم..“.

٢- عند التشاؤم والخوف والصراع مع الأفكار: خاصة في البؤساء، فعندما كانت الشخصية تنظر إلى السماء ولا تجد النجوم فهذا نذير شؤم. انظروا إلى جان فالجان كيف كانت نفسه مضطربة عندما كانت تغيب النجوم عنه. طرق في بداية الرواية باب الأسقف ليسأله المبيت قائلًا له:
ثم مضيتُ إلى الحقول كي أنام تحت النجوم، فلم يكن ثمة نجوم.

وعندما كان جان فالجان يتصارع مع أفكاره:
“كان دماغه يغلي. لقد مضى إلى النافذة، ففتحها على مصراعيها، لم يكن ثمة نجم واحد في السماء“.

وفي فصل آخر يليه ”ونهض، ومضى إلى النافذة، كانت السماء لا تزال عاطلة عن النجوم“.

وعندما غابت النجوم من سماء باريس قال فيكتور هوغو:
”لقد حجب النجوم سقف من السحب، ولم تكن السماء غير عمق مشؤوم“.

وفي فصل ”نظرة بوم على باريس“ تختفي النجوم:

كانت النجوم قد اختفت، وكانت سحب ثقيلة قد ملأت الأفق كله بطياتها الكئيبة.

٣- عند الحب! يتأمل المُحب السماء كثيرًا. ففي رواية الحرب والسلم، وبعد أن خرج بيير من عند ناتاشا، تأمل السماء في لحظة وجود مذنب ١٨١٢:

 كان الجو جميلا وبارداً. ومن فوق الشوارع القذرة العاتمة، انبسطت سماء مزدانة بالنجوم. لم يكن بيير يحس بالدناءة المخزية للأمور الأرضية بالقياس إلى الأعالي التي كانت ترفرف فيها روحه إلا حين ينظر إلى هذه السماء. وبينما كان يدلف إلى ساحات الأربات، انكشفت لعينيه مساحة عريضة من السماء المنجمة..

وكذلك ماريوس في البؤساء:
وذات ليلة، كان وحده في غرفته الصغيرة القائمة تحت السطح.. وكان يقرأ متكئًا على طاولته إلى جانب النافذة المفتوحة. أي مشهد هو الليل! نحن نسمع أصواتًا مبهمة لسنا ندري من أين تقبل. نحن نرى جوبيتير وهو أكبر من الأرض ألفا ومئتي مرة يتلمع مثل جمرة. القبة السماوية زرقاء، النجوم تتلألأ، ذلك شيء مخيف!

وفي موضع آخر:
”لم تكن السماء في أيما وقت مضى أحفل بالنجوم ولا أكثر فتنة“.

٤- مع الأمل. فالأمل كالنجوم في الأدب، وعند فيكتور هوغو أيضًا:

”كانت هذه النجوم قد أحدثت تألقات صغيرة لا سبيل إلى إدراكها في الفضاء الرحب. كان المساء ينشر فوق رأس جان فالجان جميع ملاطفات اللانهاية“.

وعند تولستوي، عندما تأمل نابليون السماء في أرض المعركة على هضبة بولكونايا:

 ”وتصبح الليالي أكثر دفئًا، وتهوي من المساء في هذه الليالي الحالكة الدافئة، النجوم الذهبية التي تبعث الخوف والفرح“.

وعندما دخل بيير السجن “التمعت في السماء نجوم مضيئة..“

وعندما كان بيتيا في أرض المعركة:
”نظر إلى السماء. كانت السماء أيضًا مسحورة كالأرض، وقد أخذت تنجلي. وكانت الغيوم أيضًا تركض مسرعة كأنها تريد أن تكشف عن النجوم..“.

وكذلك ”كانت النجوم ترتع في السماء كأنها علمت أن لن يراها أحد، وكانت وهي تبرق حينًا وتخبو حينًا آخر وتتلألأ في كثير من الأحيان، إنما تتحدث فيما بينها هامسة بشدة عن أمر مفرح لكنه خفي“.

٥- عند الموت. فكما قلنا قبل ذلك، أن جان فالجان رافقته النجوم منذ بداية الرواية، وحتى نهايتها. فعندما مات كتب فيكتور هوغو:

”كان الليل عاطلًا من النجوم، وكان دامسًا..“.

مخرج:
– وأنتم هل تتأملون السماء المزينة بالنجوم؟ يقول ماركوس أوريليوس في التأملات: ”تأمل مسارات النجوم كما لو أنك تسير معها حيث تسير، وتأمل دومًا تحولات العناصر بعضها إلى بعض. جديرة هذه التأملات أن تغسل عنك أدران الحياة الأرضية“.

ـ توصية: رواية الأمير الصغير لأنطوان دو سان إكزوبيري “النجوم.. هذه الأشياء الصغيرة المذهبة التي تُغري الكسالى بالأحلام!”. 

سفينة نوح

illustration: Miche Wynants, Noah’s Ark | Vintage Kids’ Books My Kid Loves

في التاسعة من عمري، وبينما كنت أتصفح إحدى المجلات وجدتُ إعلانًا لمسابقة رسم موجهة للصغار. كانت المسابقة تطلب من الذين لاتتجاوز أعمارهم العاشرة أن يرسموا لوحة تُعبّر عن قصة مكتوبة لطير أهمل كلام والدته إذا لم تخني الذاكرة فوقع في شِراك التمساح. تراءت في مخيلتي، وأنا أقرأ القصة، فكرة اللوحة التي سأرسمها. كان الإعلان ينصّ على أن سيكون هناك ٣ فائزين، والفائز بالمركز الأول سوف يحصل على جهاز جديد في السوق اسمه سوني بلاي ستيشن ١. لم أكن أعرف ماهو الجهاز أصلًا، ولم أكترث بالجائزة قدر اهتمامي بالفوز. لذلك مزّقت ورقة من كرسي مادة الفنية، وحملتها مع قلم الرصاص والألوان وهرعتُ إلى أقرب منضدة كي أبدأ الرسم. 

حين بدأتُ الرسم بالرصاص مرت بي أختي الصغيرة مع أخي المراهق، وسألاني عما أفعل. عندما أجبتهما سخرا مني
تحسّبي نفسك حتفوزي؟!“ 

أجبتهم بكل ثقة: طبعًا!“

وكأنني ابني سفينة وكأنّ لسان حالي يقول إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون

عندما أنهيتُ اللوحة، كانت مُبدعة بالفعل. لم يكن الرسم هو الشيء الجميل في اللوحة، بل كانت الفكرة نفسها هي المميزة. فقد قسمتها نصفين، حال الطائر عندما كان يلهو مع أمه، وحاله بعد أن افترسه التمساح أو شيء من هذا القبيل. 

عندما رأى أخي اللوحة أعجبته كثيرًا، وأخبرني بأن نُدبّل فرصة الفوز بأن يرسم نفس فكرة اللوحة لكن برسمه هو (أخي من هواة الرسم)، ويضع اسمي وصورتي عليها. أما لوحتي الفنية المميزة فنضع اسم أختي وصورتها عليها. وافقتُ على مضض.

مرّت الأيام ونسيتُ أمر المسابقة تمامًا حتى جاءنا أبي رحمه الله يخبرنا بأن هناك شخص ما اتصل عليه قائلًا أن أختي نوف قد فازت بجهاز وأن علينا أن نتسلمه.

فوجئتُ بأن أختي قد حصلت على المركز الأول بسبب لوحتي، وفازت بجهاز سوني بلاي ستيشن ١، وظهر اسمها وصورتها بجانب لوحتي في المجلة. كانت الفرحة عامرة، إذ أنني سارعت بقول أخبرتكم!!“ للجميع…نعم لقد فعلتها!

جلب الجهاز السعادة لباقي أفراد الأسرة، إذ أننا حملناه معنا في الإجازة الصيفية في جدة، وشاركنا الجميع الألعاب المشهورة آنذاك مثل كراش بانديكوت وببسي مان ورزدنت ايفل.

تذكرتُ هذه القصة عندما شرعتُ في البدء بمهمة تحديتُ بها نفسي خلال الأيام القادمة. هناك نجلاء مبدعة تود أن تقول أخبرتُك!“ لنجلاء المتشائمة التي تسخر منها وترغب في إحباطها.

لذلك، إن فزتُ بالتحدي وظفرتُ بالنتيجة سأخبركم حتمًا عن هذا المشروع في تدوينة إن شاء الله :]

عبق المنازل

Illustration by Merlin

“بوسع البشر أن يغمضوا أعينهم أمام ماهو عظيم أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، ولايستطيعون صدّه إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، إنه يدخل إلى أعماقهم، الى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل اليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه.”

في إحدى الأيام وجدتُ كيسًا في زاوية المجلس، فتحته من باب الفضول لألقي نظرة ثم قلت لأمي مؤكدة لها”هذا من أم فيصل“ 

عرفتُ مصدر الكيس من رائحته التي فاحت عند فتحه. أعرف رائحة منزل صديقة أمي جيدًا، له رائحة مميزة كبقية البيوت التي زرتها. فكل بيت بالنسبة لي له رائحة تميزه عن البيوت الأخرى. 

خطرت في بالي كتابة هذه التدوينة عندما خرجت إلى الشارع وشممت رائحة جميلة فقلت ”رائحة مطر“ مع أنه لم يكن هناك أي أثر للمطر على الشوارع والسماء صافية. أخبرتني صديقتي أنه نزل هتّان قبل فترة وجيزة. نعم للمطر رائحة، كما للشمس رائحة، ولأوقات الطبيعة روائح مثل رائحة الصباح الباكر وآخر المساء قبيل الفجر. 

أعرف جيدًا رائحة أمي، وأستطيع أن أُخرج طرحتها من بين عبائات النساء الأخرى، وكذلك رائحة ابنتي وكل فرد من العائلة. وكم تمنيت أن أحتفظ برائحة أبي رحمه الله.. ألم يتوصل العلم إلى طريقة نحتفظ بها بروائح أحبابنا إلى الأبد؟ 

هنا بعض الروائح التي تعيد لي ذكريات الطفولة:

 أقلام الرصاص والمسّاحات
الأقلام الملونة برائحة الفواكه
دواء الكحة بنكهة الفراولة 
الطباشير
كلور المسابح
بخور المستكة خاصة أيام رمضان والجُمع
رائحة نيسكويك
خبز البر المديني
التميس
الكتب في أول يوم دراسي
صمغ اليوهو

عطر راماج من برجوا، وعطر ريف دور
مطار جدة
فاكهة الخربز
الورد المديني والفل
الحبق

ماذا عنكم؟
أي الروائح تُعيد لكم ذكريات الطفولة؟

شاي الظهيرة


في إحدى سنوات الطفولة، زارنا بعض الأقارب ومعهم ابنتهم الصغيرة والتي كانت في مثل عمري. كنتُ سعيدة للغاية بهذه الزيارة إلى الحد الذي قررت فيه أن أدعوها إلى تناول كوب شاي حقيقي. أخرجتُ كوبًا من طقم الشاي من الألعاب، ثم توجهتُ إلى المطبخ ووضعتُ كيسًا من الشاي وبعض السكر فيه. ماذا عن الماء المغلي؟ لدينا برادة ماء تقدم الماء الساخن! 

وهكذا صنعتُ أول كوب شاي في حياتي. 

ستمر سنوات طويلة قبل أن تُذكرني قريبتي بكوب الشاي هذا في بوسطن، المدينة الأمريكية التي نهضت فيها حركة حزب الشاي ضد سياسات الاستعمار الإنجليزي.

كنتُ أجد شرب الشاي فرصة لذيذة لتبادل الأحاديث مع صديقاتي – إن اخترنا الجلوس– أو عندما أقابل صديقات جدد. تعرفت على صديقة عزيزة في أحد المحلات التي تقدم الشاي في مونتريال، والتي دارت فيها الكثير من المواضيع الشيقة أثناء شرب شاي الظهيرة قبل أن يُغلق تمامًا. وعندما أنجبتُ ابنتي، فإن أول خروج لي بدونها كان لشرب شاي الظهيرة مع أمي. ومع الموجة الحالية للمقاهي المتنوعة، لم يعد يدعوك أحد إلى شرب كوب من الشاي خارج المنزل. 

الإنجليز يحبون الشواهي كثيرا، لدرجة أن ذلك انعكس على كلامهم. عندما سألت موظفة إنجليزية عن رأيها في بوريس جونسون (رئيس الوزراء الحالي)، قالت “هيز نت ماي كوب اوف تي” He’s not my cup of tea أو لا أجده مناسبًا بالنسبة لي.

اشتريتُ لابنتي طقمًا للشاي.

وقبل أن يتناثر في كل مكان على الأرض، نتظاهر أحيانًا بشرب شاي الظهيرة سوية. أسكب لها بعضًا منه في الأكواب، لكنها تصر على شرب الشاي مباشرة من فم الإبريق.

وفي هذا العام، جربت نوعًا جديدًا من الشاي أثناء زيارتي للندن، من شركة Fortnum & Mason الإنجليزية. كانت تجربة رائعة، ندمت على أنني لم ابتاع المزيد من الشواهي، لكنني استدركت الأمر، فمن يندم الآن في زمن التسوق الإلكتروني؟

كتابي الأول

Ginnie Hsu


في الكتابة، تنصح الروائية مارقريت آتوود الكاتب المبتدئ بالتخلص من الصفحات الزائدة والمملة أو الكتابات التي لافائدة منها بقولها:
”The wastepaper basket is your friend. It was invented for you by God”
”سلة المهملات صديقتك. لقد خلقها الرب من أجلك“

في العاشرة من عمري، زارنا خالي الأكبر المدينة قادمًا من جدة. بعد مدة ليست بطويلة من دخوله المنزل، قدّمت إليه ال”اوتوقراف” الخاص بي من أجل أن يدوّن عليه شيئًا من مشاعره الإيجابية نحوي. كنت أطمح إلى تجميع أكبر عدد من الأشخاص ليكتبوا لي حتى لا يُبقوا لي صفحة فاستطيع بذلك التفاخر أمام صديقاتي عن العدد الكبير من الناس الذين أعرفهم، تمامًا مثل عدد الأصدقاء في فيسبوك.

”هذا كتابك الذي كتبتيه؟“ قال خالي ممازحًا، أو افترضت أنه كان كذلك.

”لا! هذا اوتوقراف.. تعرف اش يعني اوتوقراف؟“ وشرحت له ماذا يعني، وماذا يجب عليه أن يفعل.

سطّر بضعة كلمات في دفتري الصغير، ثم قال ”لو كتبتِ كتابًا فإنني سأنشره لكِ“

لمعت عيناي. كانت الفكرة تبدو جديدة وجذابة .. أنا أكتب كتابًا؟ 

جلستُ على طاولتي الحمراء أعصف ذهني، وأفكر ما الذي يمكنني كتابته؟ كل كاتب هو خبير في موضوع كتابه. في أي مجال تقع خبرتي؟ 

فكرتُ قليلًا، واستنتجتُ أنني خبيرة في طرح ”الفوازير“ على صديقاتي. فليكن كتابًا ممتعًا عن الألغاز.

بدأت بكتابة الألغاز التي أعرفها وحفظتها من مجلات ميكي، لكنها نفدت بسرعة. احتجت إلى فوازير كثيرة. التجأت إلى كتب سين جيم لشريف العلمي من مكتبة والدي، لكنها كانت ألغازًا علمية صعبة. ففكرت في النكت، نعم .. ستكون إضافة مميزة!
هكذا اكتملت فكرة الكتاب، صفحة للفزورة والحل بالخلف، وبعد كل فزورة استراحة للقارئ -المُرهق الذي فكّر بالحل- مع نكتة. قصصتُ الأوراق من الدفاتر وشرعتُ في كتابة كتابي الذي انتهى ب١٠٠ صفحة تقريبًا. كانت كل صفحة مذيّلة برقم. كنت أكتب كتابي وأنا أتخيل أنه سيساعد الكثير من الناس في تقضية أوقات فراغهم بالفوازير. بكم سيكون سعره؟ لمعت عيناي بشكل أكبر. لكن المال لايهمني فهذا كتابي الأول، ومشواري مازال طويلا. انتهيت من الكتابة، وزيّنت الكتاب بالألوان التي ستُبهج خالي والناشر. للأسف، لم يعد هناك أي دبابيس في الدبّاسة من أجل تثبيت الأوراق، فعمدتُ إلى ثنيها من الطرف الأعلى.

أخذت الكتاب معي في إجازة الصيف إلى جدة وحرصتُ على بقاء الأوراق مرتبة برقم الصفحات في شنطتي. ومن أجل منع المتطفلين من سرقة الأفكار أو إبداء آرائهم السخيفة، وضعته فوق الدولاب. جاء خالي أخيرًا وجريت إلى الدولاب وسلّمته كتابي. ما الذي حصل؟
تصفّح خالي الكتاب وأبدى إعجابه، لم يقل شيئًا بخصوص النشر.

مرت أيام عديدة وكتابي مازال فوق الدولاب. نسيته تمامًا. جاء اليوم الذي قررت فيه أمي تنظيف الغرفة بشكل عميق. ارتفع صوت أمي بغضب ”ماهذه الأوراق المتناثرة فوق الدولاب؟“

يبدو أن هواء التكييف قد نثر الأوراق.

وجدت أمي اسمي كمؤلفة على الأوراق. يبدو أنني لم أرغب في أن يسرق شخص ما فوازيري.

سألتني أمي بسرعة ” يبدو أنها تعود إليكِ .. هل مازلتِ تحتاجينها؟“

أجبت ” لا خلاص.. ارميهم“

ونادت ”يا رسول -اسم العاملة-.. جيبي الزبالة“

وهكذا انتهى كتابي الأول إلى الزبالة. 

عند الإشارة.. تكون الساعة الثانية مساءً

هل تذكرون أول مرة استخدمتم الساعة في حياتكم؟

  • كانت أول ساعة معصم اقتنيتها هي الساعة التي اشترتها لي أمي عندما كنت بصحبتها في سوق المدينة الدولي. كنتُ في السنة الرابعة الإبتدائية أي أن عمري كان حينها ٩ سنوات. الساعة فضية اللون، وبداخلها عقارب ذهبية. كانت بسوار مطاطي، سهلة اللبس. أما شكل المينا فأذنيّ ميكي ماوس، وبداخلها رسمة ميني ماوس. كانت الساعة رائعة بحق-مازلت أحتفظ بها-، وكنت انتبه للوقت من خلالها بالأخص أوقات الحصص المدرسية ووقت الطابور والانصراف.
    كنتُ ألبس الساعة في اليمين وكنتُ أعدّه أمرًا طبيعيًا لأنني استخدم يدي اليمين في الكتابة، حتى نادتني أبلة القرآن وأخبرتني أن أضعها في معصمي اليسار “لأن الساعة تُلبس في هذا المكان”. بعدها أصبحتُ ألبس الساعة على معصمي اليسار دون أن أعرف الحكمة من ذلك.

  • كانت لدينا ساعة حائط من سيكو في صالة الجلوس تدّق كل ساعة بنغمة مطولة، وكل نصف ساعة بنغمة خاطفة سريعة. حركات عقارب هذه الساعة ودقاتها تجلب لي العديد من الذكريات السعيدة: وقت المسلسلات الكرتونية، قرب رجوع أبي من خارج المنزل، اقتراب موعد طعام الغداء، الوقت الذي أصبح فيه متأخرة عن المدرسة، وأوقات الصلوات… 
  • عندما كنت أتجهز في أيام المدرسة لمذاكرة اختبار مادة تعيسة تتطلب الكثير من الصبر، كنتُ أضع ساعة أمامي وأقول لنفسي ”سأنتهي من هذه الجزئية- قد تكون صفحة أو أقل- بعد ٢٠ دقيقة بالضبط، عندما يُشير عقرب الساعة الكبير إلى ٤“ وابدأ في المذاكرة بتركيز شديد ومتواصل دون انقطاع.بعد سباق مع الزمن انتهي من الجزء الذي حددته وانتقل إلى الجزء الذي بعده فأتبين مدى صعوبته وأحدد الوقت المناسب له وهكذا، أكرر هذه الطريقة حتى إذا أخذني الإرهاق حددت لنفسي راحة مدتها نصف ساعة بالضبط. إلى أن انتهي من مذاكرة المادة.هذه الطريقة حفظت لي الكثير من الوقت أيام الاختبارات، وكذلك خلصتني من التوتر. إذ أنني كنتُ أشعر بأن الوقت سيداهمني فلابد من التركيز، على خلاف صديقتي التي كانت تذاكر اليوم كله لكن كان وقتها يضيع بسبب المُشتتات خلال اليوم. أما أنا فيومي كان مابين المذاكرة والراحة وأحيانا اللهو.عندما كبرت تعلمتُ أنه عندما ترغب في كتابة هدف ما تود تحقيقه، فإنه يجب أن يكون هذا الهدف:
    ١- قابل للقياس
    ٢- واقع من الممكن تحقيقه
    ٣- وأن يكون محدد بزمن معيّن
    فمثلا، لايصحّ قول ”أود أن اقرأ الكثير من الكتب هذه السنة“ إذ أن الكثير هنا غير قابل للقياس من الممكن أن يكون الكثير ١٠ أو ١٠٠، ولا يصحّ ”أود أن اقرأ ٣٠٠ كتاب في السنة“ إذ أنه لايمكن تحقيقه- من يقرأ أصلا ٣٠٠ كتاب في السنة؟!- ، ولا قول ”أود قراءة ٥٠ كتابًا“ لأنه غير محدد بزمن، فيجب تحديد كمية الكتب المقروءة. أما عبارة ”أود أن اقرأ ١٢ كتابًا في السنة“ فهذه هي الصيغة المثالية.

    بالطبع كان الهدف في مذاكرتي أمر من الممكن تحقيقه، قابل للقياس (صفحة أو أقل)، ومحدد بزمن معين (نصف أو ٢٠ دقيقة).

    انتقل سباقي مع الساعة إلى يومي هذا ولكن بشكل آخر، فحين يداهمني أمر يقلقني وأرغب بشدة في التخلص منه – كموعد لطبيب الأسنان – فإني أضع المنبه على وقت خروجي من العيادة. فإذا حل اليوم التالي وانتهيت من زيارة طبيب الأسنان وكنت في السيارة عائدة إلى المنزل إذ فجأة أسمع صوت المنبه، فأتذكر أنني تخلصت مما كان يقلقني وأشعر بسعادة بالغة. مع توتري، أنسى في كل مرة أنني وضعت المنبه.
    اتبع هذه الطريقة في أمور مختلفة: اجتماع، مقابلة، اختبار، نهار مليء بالمشاغل.. جربوها وتذكروا عند كل أمر يقلقكم أن هذا الوقت سيمضي ويمضي الأمر معه.

  • كنتُ أهاتف أبي رحمه الله يوميًا لسنوات على الساعة ال١٠ مساءً بتوقيت السعودية (أما بتوقيت كندا فالساعة ٢ أو ٣ ظهرًا على حسب التوقيت الصيفي أو الشتوي)، وكان أبي رحمه الله ينتظر اتصالي عند الهاتف في ذلك الوقت، فإذا مر يوم دون أن أتصل عليه يخبرني في اليوم التالي أنه انتظرني عند الهاتف طويلا. عندما مرض أبي ثم تُوفي، احتجتُ لأن أُشغل نفسي ما بين الساعة ٢-٣ حتى أتناسى وقت المكالمة. مرت شهور طويلة، ومازلتُ أشعر بالحزن كلما حلّت الساعة ٢ ظهرًا. 

عن الهدايا


لأهل المدينة مَثَل جميل ” أنا غنيّة وأحب الهديّة“ ويعني أنه مهما كان لديّ ثمن الهدية إلا أنني أحب أن يُهدى إليّ. ومن لا يحب أن يُهدى إليه؟

كان أبي رحمه الله دائمًا مايذكرنا بعزة النفس والاستغناء عن الناس، ومن ضمن الاستغناء هذا موضوع الهدايا. أذكر أن أهدتني صديقتي في الصف الثالث الإبتدائي مقلمة فما كان من أبي إلا سألني عن سبب الهدية، وإذ لم يكن لها مناسبة فقد أمرني بأن أردها إلى صديقتي حتى لايصبح لها ”جميلٌ“ عليّ. تدخلت أمي وأوضحَت له أن أطفال ”اليومين هذه“ هم هكذا يُهدون بعضهم بعضًا بمناسبة ومن دون مناسبة، وأن الهدية بسيطة ليس لها قيمة تُذكر، وبعد محاولات منها أنقذت نجلاء الصغيرة التي تعلق قلبُها بالمقلمة.

كنتُ من أطفال ”اليومين هذه“ فقد أحببتُ إهداء الهدايا بمناسبة وبدون مناسبة.
كان مصروفي اليومي ٣ ريالات، أمر في كل صباح بالبقالة المجاورة لمنزلي قبل أن أذهب إلى المدرسة، واشتري عصيرًا، وتشيبسًا، وهدية (نسر ورقي، بالون صغير، ملصقات، أو حلوى..). ثم إذا حان وقت الفسحة ناديتُ زميلاتي بصوت عال ”مين تجاوب على سؤالي تاخذ هدية؟“ وأكرر ذلك، اسألهن فزورة قرأتها في إحدى مجلات ميكي أو من مجلدات شريف العلمي وأُهدي الفائزة جائزة قيمتها ثلث مصروفي.

لي زميلة إلى الآن تذكرني لأنني أهديتها في الصف الثالث الإبتدائي ألوانًا خشبية صغيرة للغاية (لم أرها منذ تلك الأيام لكني تواصلت معها عبر الشبكات الإجتماعية). بالطبع لا أذكر الهدية.

مرت سنوات عديدة حتى تزوجت وأُهديت إلي هدايا قيّمة من الأهل والمقربين، ولذلك نصحني أبي رحمه الله بكتابة أسماء هؤلاء الذين أهدوني وهداياهم في دفترٍ صغير أحتفظ به حتى أتذكر أن أرد لهم”الجميل“ مستقبلًا. كان أبي رحمه الله يرى الهدايا -خاصة الثمينة- عبئًا، فقد نشأ يتيمًا لايريد أن يتفضّل أحد عليه بشيء، ولذلك كان يُقيّم الهدية وعندما تحين الفرصة يُهدي لصاحبها هدية أجمل منها. جميلٌ يجب أن يُرد بأفضل منه.

أعتقد أن العديد منا أُهديت إلينا هدايا لانحتاجها، أو لاتناسبنا، أو لم تعجبنا. لانريد أن نحتفظ بهدية لن نستخدمها وستأخذ حيزًا من منزلنا. ما العمل؟ فلنُعيد تدويرها.
أهدتني صديقتي الأمريكية عطرًا –فلاور بومب– من فيكتور اند رولف، وهو عطر غال الثمن نسبيًا، يبلغ ثمنه حوالي 165 دولارًا أمريكيًا، وهو بالمناسبة أعلى ثمنًا من عطر شانيل نمبر فايف بحجم ١٠٠ مل- نستطيع أن نقارنه بعطور توم فورد غير المركّزة-. كانت صديقتي كريمة للغاية لدرجة أنها وضعت مع العطر فاتورة الشراء من محلات ميسيز الأمريكية حتى أتمكن من استبدال العطر. لايعجبني العطر إطلاقًا، ولم أكن لأُهديه لو أنها لم تترك معه الفاتورة. لا أحب أن أُهدي شخصًا عطرًا لا يُعجبني. لذلك أخذته مع الفاتورة إلى ميسيز واستبدلته بعطر من شانيل- أهديته فيما بعد- وحصلت بباقي المبلغ على واحد او اثنين من مستحضرات التجميل.
أعجبني التصرف هذا للغاية، فأصبحت فيما بعد أضع مع الهدية فاتورة الشراء (لا يظهر عليها السعر) يستطيع الشخص أن يستبدلها بشيء آخر يحبه.

تناقشت مع صديقتي عن موضوع الهدايا، وأخبرتني عن ساعة أُهديت إليها بمناسبة تخرجها ويبلغ ثمنها حوالي ال٣ آلاف ريال ، قد يكون سعر الساعة معقولًا بالنسبة إلى البعض، ولكنه رقم كبير في حيز الهدايا. هذا يعني أن هناك شخص أهدى إليك (أعطاك) ٣ آلاف ريال. لم تعجبها الساعة، ولاتستطيع بيعها أو استبدالها في المحل (لاتوجد معها فاتورة شراء). حاولت أن تلبسها مرة ولكنها لم تطق منظرها الكبير على رسغها الصغير. لا تريد أن تُهديها لأنها لاتُمثّل ذوقها. كل هذا ليس مهمًا فهي قد تتبرع بها، إلا أنها تُدين بثمن الساعة لزميلتها السخيّة مستقبلًا. فإذا حلت مناسبة لها، فلن تستطيع أن تُهديها هدية بأقل من ٣ آلاف ريال- أو على الأقل حول هذا المبلغ. تخيّل أن تأتيك هدية قيّمة نسبيًا لا تعجبك، ثم تضطر أن تُهدي مستقبلًا هدية فوق ميزانيتك.

لاتُهدي هدايا مرتفعة الثمن إلا لأهلك، ثم للمقربين من أصدقائك في المناسبات الكبيرة. أنت تعرف ذوقهم جيّدا. ولن تتورط-غالبًا- في شراء هدية لن تعجبهم أو لم يُلمحوّا مسبقًا عن قصد أو دون قصد بإعجابهم بها. ماذا عن البقية؟
إن كانت المناسبة بسيطة فاقترح أن تجعل الهدية كذلك، وإن لم يكن هناك مناسبة. أما إن كانت كبيرة (كالتخرج، والزواج، والولادة..) فلتبحث عن أشخاص يُشاركونك قيمة الهدية. ليس هناك هدية أفضل من المال. ولتقديمه كهدية بطريقة جميلة، اشترِ به جنيهًا أو أكثر من الذهب وقدّمه، أو ضع مبلغًا من المال في بطاقة بنكية هدية (ماستر كارد) يشتري به المُهدى إليه مايشاء.

أفكار لهدايا بسيطة:
كوب. كفر آيفون. شمعة معطرة. كتاب. فاصل كتاب. جوارب دافئة للمنزل. دفتر. نبتة. قسيمة لقص الشعر أو لعمل الأظافر أو جلسة مساج. شاحن متنقل. قسيمة شراء من مقهى أو مكتبة. بيجاما. اشتراك شهري في نتفلكس. رصيد آيتونز. بن أو شاهي فاخر. كبسولات قهوة. قاعدات أكواب. بطانية صغيرة تُستخدم في المنزل في الشتاء. حافظ حرارة للقهوة أو الشاي. مجموعة صوابين عطرية أو كرة الرغوة من محل لش. لعبة اجتماعية ”سعودي ديل مثلًا“. كريم يد بزبدة الشيا من لوكسيتان. لعبة بازل للوحة الموناليزا أو إحدى لوحات فان جوخ. دفتر تلوين لرسومات معقدة. شرشف صلاة. مخدة مريحة. صحن صغير للمجوهرات اليومية أو حامل الخواتم. أجندة. مجموعة الإعتناء بالأظافر مع مناكير. شبشب منزلي دافئ مع كريم للأرجل. مجموعة عناية للوجه (صابون، مقشر، كريم). ألواح شوكولاتة.

لاتتورط في شراء الهدايا لأشخاص بالكاد تعرفهم. سوف تُحمّلهم ونفسك عبئًا ثقيلًا . نفس الصديقة أخبرتني باعتيادها في شراء الهدايا لكافة الزميلات في العمل. ”على الأقل مائة أو مائتين ريال تذهب شهريًا في (قطة) الهدايا لزميلات العمل. زميلات في الأقسام الأخرى بالكاد أعرفهن. أخجل من قول ”لا“ فيظنوني بخيلة. أحيانًا أشعر بأنني لاأحب رؤية مائة ريال تذهب لإنسانة بالكاد أراها بسبب المجاملة!“.

خاتمة: في مسلسل بريكنق باد، يُهدي ”مستر وايت“ صديقه الثري هدية متواضعة للغاية في عيد ميلاده، كيس صغير من الرامن (نودلز ياباني شبيه بالأندومي)، يفتح الصديق الهدايا الثمينة أمام أصدقائه الأغنياء ثم يأتي دور هدية مستر وايت الذي يكاد يذوب خجلًا بسبب هديته. هذا التقليد المتأمرك أصبح منتشرًا لدى  البعض الذين يفتحون الهدايا أمام الجميع في نهاية المناسبة، ولدى هؤلاء الذين يستعرضون بهداياهم في وسائل الشبكات الإجتماعية -سنابتشات بالأخص- ويذيلون الصورة بعبارات الشكر.

ما الذي تريد أن تراه في منامك؟

theformofbeauty/borrowed-dreams

theformofbeauty/borrowed-dreams


كانت جدتي تلح على جدي بترك المدينة والسفر إلى الشام خاصة أن والدتها تركت المدينة وسكنت هناك -والظاهر أن أحوال المعيشة في الشام كانت أفضل بكثير من المدينة في ذلك الوقت- وبما أن ظروف السفر في تلك الأيام كانت قاسية للغاية صار طلبها صعبًا. ومازالت جدتي تبكي وتلّح على زوجها بقولها ”ودّيني الشام! ما أبغى المدينة!” حتى رأت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام يقول لها “والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون”.

كانت لهذه القصة – والتي قصّها عليّ أبي- في طفولتي وقع غريب على نفسي. وتحت تأثيرها، شرعتُ في قراءة كتابٍ من مكتبة أبي كان قد أُهدي إليه بعنوان “كيف ترى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام؟” كان الكتاب يستعرض حكايات لصالحين رأوا الرسول في أحلامهم. يحتوي الكتاب أيضًا على تجاربهم في تلاوة آيات وأدعية مخصوصة قبل النوم مكّنتهم بعد ذلك من الرؤية. أنهيتُ الكتاب بحماس وقرأتُ كل الأدعية والآيات والسور التي فيه- القصيرة بالطبع- ورددتها كثيرًا (كقراءة قل هو الله أحد مائة مرة، والصلاة على الرسول ألف مرة..)، ولم أر النبي في منامي. كررت ذلك في الليلة التي بعدها ولم أره حتى أصابني الملل وفترت عزيمتي فتركتها.

أصبحت الأحلام في طفولتي عالمًا مُشوّقًا للغاية. ولكي أتذكّر أحلامي الجميلة، أقوم بتدوينها فور استيقاظي حتى لا أنساها. تكوّنت لدي أوراق كُتبت بخط رديء مع العجلة حتى لا تطير أحلامي، واحتوت على خربشاتٍ عن الأحلام التي رأيتها. كنتُ أتلذذ بقراءة هذه الأوراق، أما الآن فأجدها سخيفة للغاية.

قرأتُ مرة في صفحة الأصدقاء في مجلة “ميكي” المصرية عن اختراع تسجيل الأحلام يُمكّنك من تسجيلها أثناء نومك ثم مشاهدتها عندما تستيقظ، وكم كان هذا الخبر رائعًا! فقد نشرته بين صديقاتي في المدرسة واتبعته قائلة أن الجهاز قد يأخذ وقتًا كعادة الأجهزة الحديثة في الوصول إلينا، لكن المهم أنهم اخترعوه على أي حال! بالطبع كانت صفحة الأصدقاء هذه كأخبار ال”برودكاست” الآن 🙂

ومع سكرة الأحلام، ابتعتُ من إحدى المكاتب القريبة من الحرم النبوي كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين. كان الكتاب قاموسًا يحتوي على كلمات مرتبة ترتيبًا أبجديًا، وكل كلمة لها تفسيرها. أصبحت أتصفحه كلما رأيت حلمًا ما وأقرأه بنهم، بل تطوّعت لتفسير أحلام صديقاتي في المدرسة، فالولادة تعني انفراج هم والخاتم رزق والحمل هم وهكذا. العجيب أن إحدى صديقاتي والتي تتصل بي عند رؤيتها لحلم غريب أخبرتني أن تفسيري لها يتحقق. والأعجب من ذلك أن ابن سيرين لم يُؤلف هذا الكتاب، وإنما جُمع عنه.

ثم دهشتُ لقراءة قصص عن صالحين -في كتاب “الروح” لابن قيم الجوزية- قد تواصلوا مع الأموات عن طريق أحلامهم. أخبرتُ صديقتي عن حكاية الشخصيْن الذين تواعدا في الحقيقة، ثم رأيا بعضهما في المنام. تواعدتُ أنا وصديقتي في المدرسة أن نتقابل في الحلم، تاركتيْن صديقاتنا يضحكن علينا. تقابلنا في اليوم التالي وضحكنا نحن على خيبتنا.

بعد ذلك، قرأتُ في مقدمة ابن خلدون عن “الحالومية” وهي كلمات أعجمية تُرددها قبل النوم إن أردت أن ترى شيئًا ما في منامك:
تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس
وسرعان ماتوجهتُ إلى صديقتي وأخبرتها أن نُطبق الحالومية لهذه الليلة. قرأتُ الأذكار ثم رددت الحالومية مرارًا حتى غلبني النعاس. لم أر شيئًا وكذلك صديقتي.

في السنوات الأخيرة خفّ اهتمامي بالأحلام كثيرًا. قرأتُ كتابًا لفرويد “عن الأحلام”، ورغم أن هناك بعض المنطق في الكثير من تفسيراته، إلا أنني عجبتُ من إصراره على تفسير الأحلام وإرجاعها إلى الدافع الجنسي. قرأتُ أيضًا لعلي الوردي كتابه “الأحلام بين العمل والعقيدة” وأعجبني تحليله لتأثير الأحلام في المجتمعات خاصة العربية. وأوضح أن الكثير من الناس استغلوا أحلامهم لأغراض شخصية، وكيف أن الكثير من الأحلام هي رغبات ومشاعر مدفونة تظهر للمرء عند نومه. ومن كلامه الذي استوقفني:

“إن الأستاذ سلامة موسى ينصح القارئ بأن لا يروي حلمه -مهما ظنه بريئًا- لأحد إلا إذا وثق بأخلاقه. فالحلم قد يخفي رغبة دنيئة لا يجوز الكشف عنها، بينما هو في ظاهر بريء كل البراءة”.

وبالحديث عن الأحلام، لاحظتُ وجود “صائدة الأحلام” في الأسواق الشعبية هنا:
tan-dc476-dreamcatcher-with-quartz
وهي شبكة من الخيوط والريش يعود تاريخها إلى السكان الأصليين الذي كانوا يصنعونها لأطفالهم حتى يصطادوا لهم أحلامًا جميلة طائرة في الليل، فتقع في الشبكة وتخرج من خلال الريش وتذهب للنائم. أما الكوابيس فإنها تبقى عالقة في الشبكة حتى تشرق الشمس وتتبخر كما الندى*.

أما الآن فأستطيع في كثير من الأحيان تغيير مجرى أحلامي لأني أُدرك أنني أحلم – قيل أنها تُسمى بالأحلام الواعية-. ولا أذكر متى كانت آخر مرة رأيتُ فيها كابوسًا دون أن انتبه أنني أحلم، فأُقرر حينها أن استيقظ وأوفّر على نفسي عناء تحمّل هذا الكابوس. لابد أن تاريخي مع الأحلام قد أثمرت نتائجه، فلا كوابيس بعد اليوم.

أختم هذه التدوينة بهذا الفيديو اللطيف بعنوان “لماذا نحلم؟” مدته ٥ دقائق، وبه ترجمة عربية:

https://youtu.be/2W85Dwxx218

لستُ صغيرة

c59ae5aa2777a400568027c69758b321

My Modern Met


في طفولتي كنت أتعجب من الكبار الذين يوجهون الكلام إلي باعتباري طفلة صغيرة في السن، فكيف استنتجوا أصلًا أني صغيرة؟
لم أكن أدرك ببساطة أن جسدي حينها صغير الحجم، وأن ملامحي-بالطبع- طفولية. كنت أرى نفسي كالكبار، فأنا لا أصرخ كالأطفال ولا أتصرف مثلهم كما أعتقدت، وتغيظني جملة “عندما تكبرين سوف تعرفين معنى..” لأني مثلكم أيها الكبار لستُ صغيرة، وأعرف كل شيء، ولديّ معلومات قيّمة تعلمتها من صفحة الأصدقاء في مجلات ميكي وماجد، بل واقرأ من كتب أبي أحيانًا.

حتى العين السحرية على الأبواب، كنتُ أؤمن بأنها صُنعت لطوال القامة! اعتقدت بأنني قصيرة فقط ولم يخطر في بالي يومًا أنني سوف (أكبُر) وأتمكن من الرؤية خلالها. ماهذا؟ ألم أنظر إلى نفسي في المرآة؟ لا أدري، لم أكن استخدم المرآة إلا من أجل تنظيف أسناني!

كانت لدينا طاولة حمراء صغيرة وكراسي نستخدمها أنا وأختي في اللعب والرسم، كما كنا نستعرض الحلويات عليها ونقسمها أو نتبادلها فيما بيننا.
image1
كان منظر الحلويات رائعًا وكنا نستلذ برؤيتها مرصوصة فوق الطاولة. كنت أدعو البالغين إلى الجلوس على الطاولة عندما يلعبون معي، فيخبرونني بأن الكرسي صغير عليهم. صغير؟ أعتقدتُ بأن المشكلة كانت بالأحرى مع أوزانهم. بعد سنوات عديدة، كانت دهشتي عظيمة عندما اكتشفت بأن الكرسي ضاق بي ولم أستطع الجلوس عليه كما اعتدت، لقد كبرتُ حقًّا!

ذات يوم وبعد أن دهنت أمي رأسيْنا بالزيت من أجل أن نستحم لاحقًا، اشتهينا أنا وأختي حلوى كانت تُباع في البقالة الملاصقة لبيتنا. توفر لدينا مبلغ من المال تبقى من مصروف المدرسة. قرارنا كان سريعًا إذ ذهبنا إلى البقالة على الفور بصحبة السائق الجديد، وبشعورنا المُزيّتة والمرفوعة. وضعت أمي يدها على رأسها عندما رأتنا قادمتيْن ومحملتيْن بأكياس هزيلة من البقالة.
أين كنتما!؟
في البقالة! اشترينا بعض الحلويات!
بالطبع استمعنا إلى محاضرة طويلة من أمي وأبي. فكيف نخرج هكذا بدون استئذان وبصحبة رجل غريب؟ كان استغرابنا الأشد أنه ما الحاجة إلى كل هذا، وكيف نستأذن والبقالة قريبة من البيت؟ لسنا صغارًا!

مع مرور الأعوام، توقّفت عن الإدعاء بأنني كبيرة في السن، لم أعد صغيرة. لستُ صغيرة، لم أعد استعرض حلوياتي، ولا أعرف كل شيء كما كنت أعتقد في طفولتي. وبت أفهم جيّدا لم يتضايق بعض الأطفال عندما يتجاهلهم الكبار ويستصغرونهم.

قبل أيام استخدمت تطبيق “أوبر”، وكم كانت فرحة السائق الجزائري كبيرة عندما علم بأنني عربية، إذ أخذ يُحدّثني عن مساوئ الغربة، وأخبرني بأنه لايستطيع أن يقيم حوارًا مع كندي غريب عنه بسهولة -فيما عدا الحوارات السطحية التي تدور حول الطقس-، بينما يستطيع أن يتحدث إلى أي عربي لاشتراكه معه في الثقافة والعروبة والإسلام. أراد أن يُقرّب لي المعنى ليقول أنه على الرغم من الفارق الكبير بين عمره وعمري، إلا أنه يستطيع أن نتحدث في مواضيع مشتركة بسهولة، فسألني:
-كم عمرك يانجلاء؟ ٢٢ سنة؟
-شيء زي كذا
-زي كذا؟ ااه قالوا ماتسأل المرأة عن عمرها، سبحان الله.. المرأة مخلوق عجيب! هاها

مخلوق عجيب؟ غفرت له، فقد قدّر أنني أبلغ من العمر ٢٢ سنة!

مذكراتي العزيزة

في العاشرة من عمري كنت اقرأ إحدى قصص بطوط وإذ بزيزي (صديقة بطوط) في القصة لديها مذكرات تدوّن فيها يومياتها وتبدأها بمذكراتي العزيزة..”.

أعجبتني القصة ومدى ارتباط زيزي بيومياتها لدرجة أنني عزمت وقتها أن تكون لي مذكرات أُدون فيها يومياتي وافتتحها بمذكراتي العزيزة..”، لذلك قررت أن أُحصي مالديّ من الأموال المتبقية من مصروفي المدرسي اليومي (كان حينها 3 ريالات، أصرف ريالين وأدخرُ ريالًا)، وأن اشتري دفترًا مرسوم على غلافه ورود جميلة (هكذا تخيلت شكل مذكراتي).
وجدت أن ماادخرته كان 10 ريالات. ممتاز. أعطيتها للسائق الذي أرسلته إلى مكتبة شقير (إحدى المكتبات الشهيرة في المدينة حينئذٍ) وأوصيته بأن يحضر لي دفترًا جميلًاعليه ورودوأن يتصل بي على هاتف المنزل من المكتبة ويُعطيني البائع لكي أحادثه وأُفهمه ما أريد. كانت لحظات الإنتظار عصيبة أتذكرها، رن الهاتف واستفسرت من البائع عما إذا كان لديهم دفتر جميلعليه ورود“. أخبرني البائع بأن هناك دفترًا لونه أحمر والآخر أزرق.”عليه ورود؟“. نعم. اخترت الأحمر. أخبرني بأن سعره 14 ريالًا،مو مشكلة“. أخبرتُ السائق بأن يدفعها من ماله ومن ثم يحاسبه أبي عليها.

هذا هو الدفتر، لكن عليه وردة واحدة فقط. أوه هناك ورود أخرى بالأسفل غير واضحة. عمومًا كانت سعادتي به لاتُوصف. بدأتُ حينها بتدوين يومياتي.

File 2016-08-11, 6 33 40 PM

كنت أدوّن قبل النوم كل شيء تقريبًا، استحضرُ ماذا فعلت اليوم، والأحداث الروتينية والشيقة، وأرسم، وألوّن وألصق الصور والرسائل التي كنت أستلمها من صديقاتي وبنات خالاتي. كان تدوين المذكرات فعل يومي جميل، أتكاسل أحيانًا عن فعله لكنني أجبر نفسي عليه. وابدأها أحيانًا كما زيزي بمذكراتي العزيزة..”

File 2016-08-11, 6 43 02 PM

هنا مثال لإحدى اليوميات
File 2016-08-11, 6 32 21 PM

هنا أمثلة لبعض الصفحات الغير مكتوبة :]
أغنية دق الجرس على لحن أغنية الأخ جاك الفرنسية (فغيغ جاك)
Photo 2016-08-11, 6 18 38 PM

وهنا احتفل بعيدميلادي ال11، على طريقتي.. 11 شمعة

Photo 2016-08-11, 6 21 27 PM

هذه وردة أحضرتها أمي، فوضعتها بين الصفحات للذكرى.. لم يتبق منها إلا نصف ورقة

Photo 2016-08-11, 6 22 10 PM

وهنا استخدم طريقة زيزي في مخاطبة مذكراتي

Photo 2016-08-11, 6 24 08 PM

Photo 2016-08-11, 9 10 54 PM

وهنا رسمة روحانية لفتاة تصلي بدون يدين 😀

Photo 2016-08-11, 6 19 20 PM

وهنا جدول الرحلات في عطلات نهاية الأسبوع، ويظهر أن جدول نجلاء الصغيرة كان مزدحمًا

Photo 2016-08-11, 6 25 23 PM

بعد مرور وقت طويل، أخذت هذا الدفتر معي إلى جدة في الإجازة لكي استمر في التدوين، ووضعته في مكان مكشوف لأعود بعدها واكتشف أن إحدى القريبات (متزوجة، أي أنها كبيرة في ذلك الوقت) تسألني وهي تتصفحهلم أكن أعرف أنكِ ذهبت للطبيب وقام بإعطائك إبرة..” كانت ابتسامتي جافة، وكانت حكاية ذهابي للطبيب أقل من عادية ولكني غضبت كونها قرأت مذكراتي الخاصة وانتهكت خصوصيتي. انتظرتُ حتى خرَجَت، وشققتُ الصفحة التي ذكرتُ فيها أنني ذهبت للطبيب.

حينها قررت أنني لن أستمر في كتابة مذكراتي.

تمر سنوات طويلة قبل أن أسافر في رحلة جميلة في شهر العسل، وقتها استخدمت أوراق الفنادق والتي تكون على مكتب الغرفة في تدوين هذه اللحظات السعيدة. لديّ أظرف باسم الفنادق محملة باليوميات، لكنني للأسف لم أدوّن سوى أيام قليلة فقط.

بعد ذلك، تعرفت على تطبيق داي ون على جوال الآيفون قيل بأن المذيعة الأمريكية أوبرا وينفري أثنت عليه.

dayone
الجميل في هذا التطبيق أنه برقم سري (ممتاز للفضوليين)، ويقوم بتدوين التاريخ وحالة الطقس تلقائيًا، كما يقوم بحفظ الصور لليوميات، وباستعراض اليوميات في خط زمني منظم. استخدمت هذا التطبيق لأيام معدودة، وكنت أعود إليه بين فترة وأخرى لأتعجب من الذكريات والتفاصيل الصغيرة التي نسيتها. هناك شيء ينقص هذا التطبيق: لا أستطيع أن أكتب بخط يدي، كما أنني لا أستطيع أن ألمس الورق وأشعر به. فهجرته.

في بداية هذا العام، تعرفت على الكتاب الأسود (دفتر هوبونيتشي وليس الكتاب الشيوعي) عن طريق حساب البراء العوهلي في تويتر. أعجبتني المميزات في هذه المذكرات الجديدة، وقررت أن أعود إلى تدوين اليوميات!
File 2016-08-12, 1 28 43 PMهذه صفحة من الدفتر، تحتوي على التاريخ الميلادي وأوجه القمر، ومخططة حتى يسهل الرسم فيها، ومقسمة لساعات اليوم، كما يوجد اقتباس جميل. وعلى اليسار يوجد رقم الشهر حتى يسهل تصفح الدفتر.
File 2016-08-12, 1 28 08 PM

استخدمت هذا الدفتر في تدوين المهام والمخططات اليومية حتى لا أنسى، وفي تدوين اليوميات أيضًا. أخبرت صديقتي ريم عن هذا الدفتر، وتفاجئت أنها من محبي دفاتر المهام (البلانرز)|اليوميات، ومستخدمة قديمة لها. أرشدتني إلى نوع جميل من الممكن أن استخدمه في العام المقبل، وإلى طابعة صغيرة لصور الجوال مخصوصة من أجل هذا النوع من اليوميات.
printer

اشتريت الطابعة وأوراقها من أمازون. الطابعة صغيرة بحجم الآيفون تقريبًا، لا تحتاج إلى الحبر (تقنية الزنك حسبما فهمت)، وأوراقها لاصقة. تتصل بالآيفون عن طريق البلوتوث ويتم اختيار الصور وترتيبها في التطبيق المخصص لها. بعدها اطبع 4 أو 6 صور في ورقة واحدة، ومن ثم أفصلها بالمقص حتى تصبح صغيرة ومناسبة لحجم اليوميات وألصقها على الصفحات. جودة الصور ليست ممتازة ولكنها جيدة بالنسبة لهذا الغرض وكافية لأن أرى الصورة التي تُلخّص اليوم بوضوح.

هنا فيديو صورته بنفسي عن الطابعة

حسنًا، بعد كل هذا، لماذا أدوّن يومياتي؟
إحدى أهم الأسباب التي دفعتني لأن أعود إلى تدوين يومياتي مجددًا هي أن المذكرات تحفظ التفاصيل الصغيرة من الضياع. لا أبالغ في قولي أن اليوميات التي دوّنتها في دفتري الذيعليه ورودلم أكن لأتذكرها على الإطلاق لولا هذا الدفتر. تحتفظ ذاكرتنا بالأحداث المهمة فقط وتُهمل التفاصيل. تفاصيل صغيرة مثل شرب الشاي مع أبي، رؤية عصفور النُغري على نافذة غرفتي، زيارتي لصديقاتي وماذا حصل خلال الزيارة.. كلها تستثير مشاعري عندما اقرأ ماكتبته وقتئذ عنها. بالطبع هذه التفاصيل لا تهم أحدًا غيري.

استخدم اليوميات أيضًا في تدوين المهام اليومية والأفكار. عندما تحمل العديد من الأفكار في رأسك، قد تكون اليوميات طريقة فعّالة لعرضها مكتوبة أمامك على الورق، وقد تستحث أفكار أخرى على الظهور.

وماذا عنكم؟ هل تدوّنون يومياتكم؟