-دالاي لاما وآرثر بروكس
في جميع الأحوال، ليس هناك زمان أفضل لأن يعيش الإنسان فيه من زماننا هذا. انتشر العنف حول العالم، ومازال الكثيرون يعيشون تحت ظل حكومات طاغية، وعلى الرغم من أن كل الأديان السماوية تعلمنا الحب والعطف والتسامح، إلا أن العنف لايزال يُمارس باسم الدين.
ومع ذلك، أصبح عدد الفقراء بيننا أقل من العصور الماضية، كما تناقص عدد الجوعى، وأصبح عدد الأطفال الوفيات أقل، وانخفضت نسبة الأمية بين الرجال والنساء. وفي العديد من الدول، صار الإعتراف بحقوق المرأة والأقليات هو أمر طبيعي وسائد. صحيح أن هناك العديد من الأمور التي يجب أن نعمل عليها، ولكن بالطبع هناك أمل وهناك تحسن.
لكن أليس من الغرابة أن نجد الغضب والسخط منتشران في أكثر دول العالم ثراء؟ ففي الولايات المتحدة، وبريطانيا وعبر القارة الأوروبية نجد أن الناس هناك متوترون بسبب الإحباط السياسي، وقلقون بشأن المستقبل. يرغب المهاجرون واللاجئون بشدة الحصول على فرصة للعيش في تلك الدول المتقدمة والآمنة، ولكن هؤلاء الذين يعيشون فيها يعبرون عن قلقهم الشديد والذي يقارب اليأس إزاء مستقبلهم.
لماذا؟
هناك تلميح صغير من بحث مثير للدهشة عن كيف يزدهر الإنسان. في إحدى التجارب العجيبة، وجد الباحثون أن المواطنين كبار السن الذين لا يشعرون بأنهم مفيدون للآخرين، هم أكثر عرضة للموت قبل أوانهم ب٣ مرات من هؤلاء الذين يشعرون بأنهم مفيدين. هذا يعني بأن هناك حقيقة إنسانية واضحة: نحتاج لأن نشعر بأن غيرنا يحتاج إلينا.
إذا كان الآخرين يحتاجون إلينا فهذا لايعني أن هناك تكبّر واستعلاء على احتياجات الآخرين وشؤون دنياهم. بالأحرى، إنه يعني أنه توجد رغبة طبيعية لدى الإنسان في أن يخدم أقرانه من الرجال والنساء. ففي القرن ال١٣، علمتنا الحكم البوذية أنه إذا “أشعل شخصٌ النارَ للآخرين، فإن طريقه سوف يُضاء أيضًا”.
في الواقع كل الديانات الكبرى تعلمنا أن العمل المبذول من أجل خدمة الآخرين هو من طبيعتنا وهنا يكمن محور الحياة السعيدة. أكدت الدراسات والبحوث تعاليم أدياننا، فالأمريكيون الذين يجعلون فعل الخير للآخرين من أولوياتهم يميلون للإقرار -بحوالي الضعف- بأنهم سعداء جدًا في حياتهم. وفي ألمانيا، نجد أن الأشخاص الذين يخدمون مجتمعهم يميلون للإقرار بأنهم سعداء جدًا في حياتهم أكثر ب٥ مرات من هؤلاء الذين يرون أن خدمة الآخرين غير مهمة. الأنانية والسعادة لا يتقاطعان، فكلما أصبحنا كتلة واحدة مع الآخرين، كلما شعرنا بأننا أفضل.
هذا يساعدنا على توضيح الألم والسخط الذي يعاني منه الناس في الدول المتقدمة. فالمشكلة هي ليست نقص في الثروات المادية، بل في ازدياد أعداد الناس الذين يشعرون بأنهم غير مفيدين، غير نافعين، ولا يحتاجهم أحد، وليسوا متحدين مع مجتمعاتهم.
وفي أمريكا اليوم، مقارنة بخمسين سنة ماضية، تضاعف عدد الرجال العاطلين ٣ مرات. نجد أن هذا النموذج يتكرر في الدول المتقدمة، وعواقبها ليست فقط اقتصادية، فشعور المرء بأنه غير نافع هو ضربة لروحه الإنسانية. وهذا يقودنا إلى العزلة الإجتماعية، والألم العاطفي، ويخلق ظروفًا لأن تنمو المشاعر السلبية.
إذن، ماالذي بوسعنا أن نفعله؟ أول إجابة هي ليست منهجية، بل شخصية. كل شخص منا لديه شيء قيّم يشاركنا به. يجب أن نبدأ صباحنا كل يوم متسائلين بوعي “ما الذي أستطيع فعله اليوم من أجل أن أشكر العطايا التي يقدمها الآخرون لي؟”. نحتاج إلى أن نتأكد بأن الأخوة والإتحاد مع الآخرين هي ليست مجرد أفكار، ولكنها إلتزامات شخصية نطبقها بوعي.
كل شخص منا لديه المسؤولية بأن يجعلها عادة. لكن هؤلاء الذين يحتلون مناصب كبرى، لديهم فرصة مميزة بأن يتوسعوا في ذلك الأمر ويبنون مجتمعات تحتاج إلى خدمة الجميع.
يحتاج القادة إلى الإدراك بأن المجتمع المتراحم يجب أن يخلق فرصًا غنية للعمل النافع، حتى يستطيع الجميع أن يساهموا بمساعداتهم. يجب أن يوفر المجتمع المتراحم التعليم للأطفال وتدريبهم على إثراء حياتهم بالمزيد من التفاهم الأخلاقي وبالمهارات العملية التي ممكن أن تزودهم مستقبلًا بضمان اقتصادي وسلام داخلي. يجب أن يحمي المجتمع المتراحم الضعفاء من خلال التأكيد أن هذه السياسات لا تُوقع الناس في البؤس والإتكالية.
بناء مجتمع كهذا ليس بالأمر السهل. ليس هناك أي فكرة أو حزب سياسي يستطيع أن يقدم كل الأجوبة. تساهم الأفكار المضللة من جميع الأطراف إلى تهميش الكثير من الأفراد وإبعادهم عن حقوقهم في المجتمع، وبقهر هذه الأفكار سوف تؤخذ كل الحلول المبتكرة من جميع الأطراف. فما يجمعنا نحن الإثنين في صداقة أو تعاون مشترك ليس السياسة أو الدين، بل شيء أبسط من ذلك: إيماننا بالرحمة، بالكرامة الإنسانية، بالنفع الحقيقي لكل شخص حتى يساهم بشكل إيجابي لجعل العالم أفضل وأكثر نفعًا. الكثير منا حائرون وخائفون لرؤية الغضب والسخط ينتشران كالنار في المجتمعات التي تمتاز بالأمان والإزدهار. ولكن أمر رفضهم لأن يصبحوا سعداء يكشف عن شيء جميل: أن لديهم جوع إنساني لأن يحتاجهم الناس. دعونا نعمل معًا لبناء المجتمع الذي يغذي هذا الجوع.
هذا مقال نُشر في نيويورك تايمز، كتبه دالاي لاما وآرثر بروكس.
*الدالاي لاما ال١٤، تينزن جياستو، وهو القائد الروحي للتبت. حائز على جائزة نوبل للسلام.
آرثر بروكس هو رئيس معهد أميركان انتربرايز