من المستحيل لامرأة أن تقول شعرًا كأشعار المتنبي في زمان المتنبي.
هذا اقتباس لفرجينيا وولف، حُرّف بعض الشيء لغاية أرجو أن أبلغها بنهاية هذه التدوينة. فمن هن أخوات المتنبي، وموزارت، وشكسبير؟
إذا نظرنا إلى شعر العرب-وهو الأمر الذي نبغوا فيه وعدّه الجرجاني علمٌ من علومهم- في جاهليتهم وبعد الإسلام، نجد أن أكثر الشعراء هم من الرجال. ولو سألت ألف شخص عن أشعر العرب فسوف تكون إجابته حتمًا هي المتنبي، أو أحد شعراء المعلقات، أو المعري، أو ابن زيدون أو غيرهم، وأكاد أجزم أنك لن تجد اسم أي شاعرة بين هذه الأجوبة! ولكن لِم لم تبرع أي شاعرة عربية في العلم الذي نبغ فيه العرب؟ هل كان الشعر مختص بالرجال دون النساء؟
كانت العرب تفتتح قصائدها بالبكاء على الأطلال في تذكر المحبوبة، ثم تعرج إلى الغزل كمعلقة امرئ القيس، أو إلى الحماسة كمعلقة عنترة، أو إلى وصف الناقة كمعلقة لبيد بن ربيعة..
هل كان باستطاعة أي امرأة عربية في العصر الجاهلي أن تفتتح قصيدتها بذكر المحبوب؟
لنلقي النظر على الأبيات والقصائد القليلة للشاعرات العربيات، كانت الشاعرة الجاهلية الأشهر هي الخنساء، وكان موضوع شعرها الرئيسي- وبسببه اُشتهرت- يدور حول رثاء أخيها صخر. وبالنظر إلى مواضيع أشعارهن، نجد أن الغالبية العظمى منهن قد أنشدن الشعر في الرثاء كآمنة بنت عتيبة، وأم الأغر بنت ربيعة التغلبية، وأم الصريح الكندية، وأمامة العدوية، وأميمة العبشمية، والفارعة الشيبانية، والخرنق بنت بدر.. وبعضهن أنشدن في الهجاء في وقت الحرب، كدخنتوس بنت لقيط (وهي التي قيل فيها المثل الشهير الصيف ضيّعت اللبن).
بل إن الشاعرات اللواتي اُشتهرن في الغزل أغلبهن كن جاريات- واللاتي كانت لهن حرية أكبر بكثير من الحرائر- كالخيزران بنت عطاء وعريب المأمونية، أو أندلسيات كولّادة ابنة الخليفة المستكفي والتي كانت أمها جارية إسبانية.
فلو تخيّلنا أن للمتنبي- ماليء الدنيا وشاغل الناس- أخت لها نفس القدر من موهبته الشعرية، فإنها حتمًا لا تستطيع أن تسافر من بلاط إلى آخر لمدح الخليفة كما فعل أخوها مع سيف الدولة الحمداني وبدر بن عمّار وكافور الإخشيدي، ولا أن تتغزل في حبيبها، ولا أن تبرع في المديح والفخر بنفسها كما فعل المتنبي حيث امتدح نفسه وحقّر الآخرين! وإن كان للمعري أخت لها المقدار نفسه من الموهبة الشعرية والفلسفة ذاتها، فلا تستطيع أن تُعلن عن شكوكها كما فعل وإن كانت رهينة المحبسيْن “محبس المنزل، ومحبس غربتها بين الناس” وتقوم بتأليف عمل ضخم كاللزوميات تلتزم فيه نظام القوافي وترعى احتياجات زوجها وأطفالها.
وفي العصر الذهبي لمصر في القرن الماضي، نجد أن هناك قامات أدبية كثيرة برزت مثل طه حسين، الرافعي، المازني، العقاد، زكي مبارك، المنفلوطي وغيرهم ولكن لم تبرز من النساء سوى قلة كسهير قلماوي وعائشة بنت عبدالرحمن والتي كانت تكتب باسم مستعار (بنت الشاطئ) خوفًا من إثارة حفيظة والدها بسبب التقاليد، إلى أن تزوجّت أستاذها أمين خولي والذي كانت معه حين أتمّت رسالة الدكتوراة.
ونجد بين هذه الأسماء الرجالية الكبيرة اسم مي زيادة الأديبة الفلسطينية-اللبنانية، والتي يبدو أن مجتمعها كان أكثر تفتحًا في نظرته إلى النساء. ومي كانت تجيد التحدث بأكثر من٧ لغات، ولها صالون أدبي شهير يُعقد كل يوم ثلاثاء، ويحضره كبار الأدباء، بل وأغرم بها الكثير منهم دون أن تبادلهم الغرام لأن قلبها كان مع اللبناني جبران خليل جبران. وعلى الرغم من أن الرافعي قد أحبها- وهو المتزوج- إلا أنه سخط عليها لأنها لم تبادله الحب فدفعته إلى كتابة ٤ مقالات في وحي القلم بعنوان الطائشة، فانظر إلى بعض ماكتب عنها!
“فتاة تعيش وتموت وما ولدت للأمة إلا مقالات؟” .. “المرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر هي خير للأمة من أكبر أديبة تُخرج ذرية من الكتب!”.. “إن الشيطان لو خُيّر في غير شكله لما اختار إلا أن يكون امرأة حرة متعلمة خيالية كاسدة لا تجد الزوج!”
على العموم يبدو أن مي زيادة كانت لامنتمية حقًا، وقد جُنّت في آخر أيامها فدخلت العصفورية، وبعدها “انطفأت مي”.
وإذا رحلنا إلى أوروبا في عصر التنوير، نجد النمساوي موزارت، وهو من أشهر موسيقي العالم، بل إنه من أكثرهم تأثيرًا في الحقبة الكلاسيكية للموسيقى في أوروبا. كانت لديه أخت صغيرة “حقيقية بالمناسبة” تُدعى ماريا، وكانت موهوبة مثله تحب الموسيقى والعزف، وكانا يعزفان معًا في فيينا وباريس ومدن أوروبية أخرى في رحلتهما حول أوروبا لعرض موهبتهما أمام الناس، بل إنها تلقت في بعض الأحيان دخلًا أعلى من أخيها. لكنها عندما كبرت أجبرها والداها على التوقف عن العزف لأنها وصلت إلى سن الزواج وليس من اللائق أن تعزف كما يعزف الرجال، بينما سافر أخوها إلى باريس ومدن أخرى واستمر في العزف وأصبح من أشهر موسيقي العالم. انتهت القصة بنمسا تُمجّد ابنها موزارت وتضعه على ورق البنكنوت وتفتخر بمقهى شهير يُعرف باسمه في فيينا، ثم يتأثر به الموسيقار الألماني الشهير بيتهوفن، ولا نعرف شيئًا عن أخته وموسيقاها.
أما في انجلترا، تخبرنا فرجينيا وولف أنه كان “من المستحيل لامرأة أن تكتب مسرحيات شكسبير في وقت شكسبير!”
تشرح أكثر فتقول أنه لو كانت هناك أخت لشكسبير موهوبة مثله ولها نفس القدر من ملكة الخيال، فإن أهلها حينئذ لن يرسلوها إلى المدرسة، ولن يعطوها الفرصة لتعلم النحو والصرف وقراءة هوراس وفيرجيل. وإذا قرأت بضع صفحات من كتاب، فإنه سيدخل عليها أبواها ويأمرانها بترتيق الجوارب أو الاهتمام بالقدر على النار، وألا تتسكع وتهدر وقتها عبثا مع الكتب والأوراق. “كانوا في الغالب يقولان ذلك في نبرة صارمة ولكن طيبة، وذلك لأنهم كانوا أناسًا يقدرون ظروف الحياة بالنسبة للنساء حق قدرها ويحبون ابنتهم… وقبل أن تخطو خارج سن المراهقة وجدت نفسها تُخطب سريعًا لابن تاجر الصوف في البلدة، وعندما صرخت واعترضت ضربها أبوها بقسوة.. وبعدها كف أبوها عن لومها وتعنيفها وبدأ يتوسل إليها ألا تجلب إليه العار في مسألة الزواج تلك وألا تجرحه” لكنها هربت! ولم تكن تبلغ سن السابعة عشر بعد، وذهبت إلى المسرح الذي تحبه وقالت لهم أنها تود أن تُمثّل “وضحك منها الرجال! أما مدير المسرح فانفجر مقهقًا وتحدث عن رقص الكلاب وتمثيل النساء وأنه من المستحيل أن تُصبح امرأة ممثلة”.
فمن المستحيل أن يكون في زمان شكسبير امرأة في عبقرية شكسبير “لأن عبقرية شكسبير لم تولد وسط أناس غير متعلمين خاضعين للأعمال الشاقة، بل ولدت في إنجلترا وسط الساكسونين والبريتون، وهي لا تولد اليوم وسط الطبقات العاملة، فكيف كان يتسنى أن تولد وسط النساء!” “وحين نقرأ عن ساحرة غمروها في الماء، أو امرأة تلبستها الشياطين، أو امرأة حكيمة تبيع الأعشاب الطبية.. فإننا فيما أعتقد نكون في أثر روائية مفقودة”.
وهناك الكثير من النساء الأديبات اللاتي تخفين خلف أسماء رجال، مثل مؤلفة “نساء صغيرات” لويزا ألكوت، وماري إيفان والتي عُرفت باسم جورج إليوت، وتشارلوت برونتي مؤلفة “جين إير”، وأختها ايميلي برونتي مؤلفة “مرتفعات ويذرنغ”..
أما في عصرنا هذا، وبعد أن سُمح للنساء بالدراسة أخيرًا، نجد تقريرًا يُفيد بأن البنات هن أكثر تفوقًا دراسيًا من الأولاد في أكثر من ٣٠ دولة، وكذلك الأمر في السعودية. لكن ما الذي يجري بعد إنهاء الدراسة فأصحاب المناصب الكبرى أكثرهم من الرجال؟ بإمكانكم تخيّل وضع المرأة كأم أو كزوجة أوكابنة تُرضي عائلتها أو حصولها في مجتمعات على مُرتب أقل من الرجل رغم كونهما يحتلان نفس المنصب الوظيفي (ففي الولايات المتحدة تحصل المراة على ٧٧ سنت مقابل كل دولار يحصل عليه الرجل) أو وضعها في مجتمع يرى أن المرأة خُلقت للمنزل.
أريدُ أن أُنهي التدوينة بتعليق على هذه التغريدة:
منذ إقامة أول احتفال بجائزة نوبل في عام ١٩٠١، إلى عام ٢٠١٦، لم تحصل النساء على جائزة نوبل سوى ٤٩ مرة فقط!
فلنلق نظرة سريعة على حال النساء في الدولة الديمقراطية العظمى،الولايات المتحدة، والتي تعد أكثر دولة حصلت على جائزة نوبل، بمقدار ٣٥٢ فائز من أصل ٥٧٩ جائزة! فكيف كان وضعهن في أرقى مؤسسات التعليم- الجامعات- والتي تنطلق منها البحوث العلمية؟
بدأت جامعة هارفرد – والتي كانت مخصصة للرجال فقط- بقبول النساء لدراسة البكالوريوس بشكل عادل (بعدما كانت تقبل امرأة واحدة من كل ٤ رجال) في عام ١٩٧٧، أي ٤٠ سنة فقط!
جامعة كولومبيا في عام ١٩٨١، جامعة كورنيل في عام ١٩٧٠، برنستون في عام ١٩٦٩، وييل في عام ١٩٦٩!
فإذا كان الرجال لديهم حوالي ١١٥ سنة للحصول على نوبل، فإن النساء – وفي الولايات المتحدة فقط- كانت لديهن فرصة أقل بكثير. فكيف كان وضعهن في الدول الأخرى؟
الفائز الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل مرتين وفي مجالين علميين مختلفين كان امرأة! نعم، فازت ماري كوري البولندية المتزوجة من فرنسي والدارسة في فرنسا -الدولة الأكثر انفتاحًا حينها في تعليم النساء مقارنة بالولايات المتحدة- بجائزة نوبل في الكيمياء أولًا، ثم في الفيزياء!
مع كل الفرص المتاحة، لم يفز أي رجل بجائزتين نوبل في مجالين علميين مختلفين. هذا يُذكرني بمجال التمثيل، والذي سمح بالفرصة للنساء مبكرًا مقارنة بالعلم، فنجد أن أكثر شخص حصل على جائزة الأوسكار في التمثيل هي امرأة، فقد فازت كاثرين هبورن بجائزة الأوسكار ٤ مرات.
مقال بليغ كان بإمكانه أن يمتد لفصل كامل، وكأنه مدخل لبحث جاد عن كيف وصلنا لما نحن عليه ولماذا، أقدّر النبرة الإيجابية -الحقيقية- التي كتبتِ بها في موضوع هو أسهل مايكون للكتابة الحادة الغاضبة، الاستدلالات العربية كانت بديعة، سلاسة رائعة.
شكرًا جمانة على مرورك اللطيف وعلى تشجيعك، تحياتي لك
مدونتك من أفضل المدونات لدي والتي أحرص على قراءة تدوينات فور نشرها حقا مدونة مميزة وأكثر ما يميزها المواضيع التي تختارينها والتي في الغالب مواضيع فكرية اجتماعية.
شكرًا لك تركي على المتابعة وعلى تعليقاتك اللطيفة وهذا التشجيع
اقراء وأنا اتمنى ان لاتنتتهي هذه التدوينة . احسنتِ مضمونا وتعبيرا.
شكرًا على لطفك، تحياتي لكِ
احبك
<3
مقالة ثرّية و مجهود يُشكر عليه
ذكرّني بالاقتباسات التي استعملتها شافاق في كتابها حليب أسود
والشكر لكِ على القراءة، لم اقرأ كتاب حليب أسود بعد، في القائمة بإذن الله
في الحقيقة لدي رأي مختلف عنك: باختصار، أظن أن الفرص في العقود الأخيرة في الولايات المتحدة متساوية بالنسبة للذكور و الإناث، لكن نجد أن الأغلبية الساحقة من الابتكارات التكنولوجية كانت من نصيب الذكور. فـ Facebook, Twitter, Snapchat, YouTube, Google, Apple كلها مؤسسوها ذكور. أضيفي إلى ذلك أن الأغلبية العظمى أيضاً من المحتوى العلمي يُنتج من قبل ذكور. مثلاً في مجالي (هندسة الحاسوب)، و رغم اطلاعي الواسع، لم يصادفني مساهمة ملفتة للنظر من قبل الإناث إلا ثلاث مرات أو أربع. لغات البرمجة مثل Python, CSS, JavaScript، المواد التعليمية على موقع Udemy مثلاً، ربما كل الكتب في مجال علوم الحاسب، جميع المدونات العلمية التي أتابعها، و غير ذلك من إنتاج ذكور. أستطيع الاستفاضة من الأمثلة أكثر، و لكن لن أفعل كي لا أطيل. و أتوقع أن أغلب مجالات العلم ينطبق عليها ما ينطبق على مجال علوم الحاسب. و هذا الكلام لا ينفي وجود إنتاج جيد من بعض الإناث.
أتوقع – و رأيي بنيته على الكلام السابق – أن لكل من الجنسين – و بشكل عام – أماكن يتفوق بها. و شكراً.