كانت العرب تُرسل أبنائها إلى البادية، وقد اختلفت الآراء حول سبب إرسالهم بعيدًا عن أمهاتهم، فمنهم من يقول حتى يستقيم لسان الطفل ويصبح فصيح اللسان، وهذا يبدو غير صحيحًا لأن قريش هي أفصح العرب بنزول القرآن على لهجتهم. ومنهم من يقول حتى ينشئ الأطفال على الشجاعة والنشاط والقوة البدنية خارج المدن وأمراضها. تعددت الآراء، أما الرأي الذي توقفتُ عنده طويلًا فهو أن البادية ليست مكتظة بالعمار، وهي صحراء ممتدة تجعل المرء ينظر بعيدًا حتى تتسع مداركه دون أن يتوقف نظره عند جدران المباني، وأنّى للأفكار أن تُستلهم بالنظر إلى الجدران؟
كانت غرفتي في المدينة تُطل على شارع الملك عبدالعزيز ذو عرض ٦٠ مترًا، فنشئت نجلاء الصغيرة على أصوات الحركة المرورية المستمرة حتى ظنت أن هذا هو الأصل عند النوافذ.
وعندما سافرتُ إلى الخارج، كنتُ محظوظة إذ كان مطل منزلي في شيكاغو على وسط المدينة وبرج سيرز تاور، وفي مونتريال كانت الشبابيك الواسعة تطل على جبل مونت رويال.
انتقلتُ بعد سنوات إلى الرياض، وحرصتُ على أن تكون الشبابيك كبيرة وذات مطل أتأمل فيه كما تتأمل روبنزل من نافذتها منتظرة الإنقاذ. دخلتُ بيوتًا كثيرة معروضة للإيجار من أجل اختيار البيت ”الأكثر مثالية“ وكان بعضها مرتبًا لكني كنت أرفضها رفضًا قاطعًا من أول نظرة على الشبابيك، لأن بعضها كان إما صغيرًا مُهملًا أو مُطلًا على ”المنور“. كنتُ أحس بالضيق -وأنا مجرد زائرة- وكأني بداخل علبة تونة، كما أحس بالضيق عندما أركب سيارة ذات نوافذ مظللة بالسواد. توفقتُ بعدها في الحصول على شقة تطل على دوّار تفحط فيه السيارات وكأنني استعدتُ شيئًا من ذكريات الطفولة.
إذا كانت غرفة واحدة قادرة على تغيير مشاعرنا، وإذا كان ممكنا أن تتوقف سعادتنا على لون الجدران أو شكل الأرض، فماذا يحدث لنا في أكثر الأماكن التي نجد أنفسنا مضطرين إلى الإقامة فيها أو النظر إليها؟ وما الذي نعيشه في بيت له نوافذ أشبه بنوافذ سجن وأرض مبقعة وستائر بلاستيكية؟ – الآن دو بوتون، عمارة السعادة
وكما أحب تأمل الأبواب، أحب أيضًا تأمل نوافذ البيوت. وأجد نفسي أشفق على أهل بيت ذو شبابيك ضئيلة. يقولُ جفري كبنس وهو ناقد معماري كان أستاذًا في هارفرد، وله مادة في برنستون يُدرّس فيها عن النوافذ ”إن النوافذ تحمل فلسفة وجودية وليست مجرد وظيفة معمارية.. هل تعلم لماذا تكون النوافذ والأبواب ضخمة في الكاتدرائيات؟ أنت تترك العالم الاعتيادي وتدخل عالم الرب، فتشعر بأنك صغير للغاية، وهذا هو سبب ضخامتها“. هل هذا يعني أن الشبابيك الضخمة في غير الكاتدرائيات قد تُشعرنا بأننا في عالم الرب ولذلك نشعر بالراحة؟
إذن للنوافذ فلسفة وجودية كما لها وظيفة معمارية، هي تسمح للهواء وضوء الشمس بدخول المنزل، كذلك هي نافذة لنا للعالم الخارجي كما كانت تعتمد عليها ”أمينة“ في ثلاثية نجيب محفوظ، إذ أنها لا تخرج إلى الشارع، ولا تعرف ما يجول فيه إلا من خلال النظر إلى نافذتها. وقد تكون النافذة منفذًا للأحزان كما فعل أدهم في أولاد حارتنا عندما ”حوّل رأسه إلى النافذة فخيّل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبُعدهم عن هذا البيت“. أو قد تكون النافذة منفذًا للعشاق، كما في ”جولييت“ شكسبير أو ”إما“ مدام بوفاري، أو ”ماريوس“ في البؤساء عندما كان يقرأ متكئًا إلى النافذة المفتوحة. وكما يقول العشاق في الفلكلور اللبناني”ومن الشباك لرميك حالي”.
وبذكر الأدباء، فقد تأثر فلوبير حتمًا بالنوافذ، إذ كانت غرفته التي يكتب فيها رواياته لديها ٦ نوافذ تطل على الحديقة وعلى نهر السين! وكانت فرجينيا وولف تكتب بجانب نافذة كبيرة مطلة على الحديقة. أما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فكان يتعبدُ في غار حراء وهو مكان مرتفع – ٦٣٦ مترًا!- بعيد عن الناس له فتحة كالنافذة تُطل على الكعبة.
”إن الفائدة من التحديق خارج النافذة لا تكمنُ في اكتشاف ما يحدث بالخارج، ولكن بالأحرى لاكتشاف محتويات أذهاننا. من السهل أن نتخيل أننا نعرف ما نفكر به وأننا ندرك ما نشعر به وما يدور في أذهاننا، لكننا نادرًا ما نعرف ذلك. هناك مقدار ضخم من الأمور التي تجعلنا ما نحنُ عليه والذي يمتد بشكل غير مُكتشف وغير مستخدم وتكون إمكانياته غير مستغلة. هذا المقدار الضخم خجول ولا يظهر تحت ضغط الاستطلاع المباشر. إن التحديق خارج النافذة يقدم لنا طريقة لأن نكون متيقظين إلى الإيحاءات والانطباعات الأكثر هدوءًا لذواتنا العميقة. قدّم أفلاطون استعارة للعقل: إن أفكارنا مثل الطيور التي ترفرف في أقفاص عقولنا، ومن أجل أن تستقر هذه الطيور، فهم أفلاطون أننا بحاجة إلى أوقات فراغ هادئة. والتحديق خارج النافذة يقدّم هذه الفرصة“.
مخرج:
أغنية شبابيك لفايا يونان ♫
تدوينةالأبواب