قد تكون المكتبة كبيرة للغاية، لكنها إن كانت غير منظمة، فهي ليست مفيدة كما هي المكتبة الصغيرة المنظمة. نفس الحال ينطبق على المرء صاحب المعلومات الواسعة، فإذا لم ينظم معلوماته من خلال تفكيره لنفسه فسوف تصبح أقل قيمة عما إذا كانت أقل ولكنها مُتأملة.
هذا يحدث عندما يتقصى معرفته من كل الجوانب، ويجمع الأشياء التي يعلمها من خلال مقارنة الحقيقة بالحقيقة، وحينها سوف يسيطر عليها ويسخرها لقوته. لا يستطيع المرء أن يُقلّب أي شيء في ذهنه حتى يعرفه، وبالتالي يتعلمه، وهذا لا يحدث إلا إذا تأمله جيدًا ثم يستطيع القول حينها أنه يعرفه.
إن القراءة والتعلم هما أمران يمكن لأي شخص أن يمارسهما بإرادته الحرة، لكن ليس التفكير.
فالتفكير يجب أن يُشعل مثل النار مع الهواء، ويجب أن يُحافظ عليه باهتمامات معينة. هذه الاهتمامات من الممكن أن تكون محايدة أو متحيزة. فالاهتمامات المتحيزة تأتي من الأمور التي تهمنا بشكل شخصي. أما الاهتمامات المحايدة فهي مرتبطة بالرؤوس التي تفكر بشكل غريزي، وبهؤلاء الذين يكون التفكير لديهم أمر طبيعي مثل تنفسهم للهواء، وهم نادرون للغاية. وهذا هو السبب في أن أغلب الرجال المتعلمون يُظهرون ذلك بشكل قليل.
إن الأمر الذي يُحدثه التفكير للذات على عقل المرء-مقارنة بالقراءة- لشيء عظيم. هناك فرق شاسع ما بين طبيعة عقلين تقود أحدهما إلى التفكير والآخر إلى القراءة. ما أقصده هو أن القراءة تفرض أفكارًا دخيلة على العقل.. أفكارًا غريبة على المزاج لدرجة أنها قد تصبح مثل الختم بالشمع. فيصبح العقل حينها مكرهًا من الداخل بشكل كامل، وهو مدفوع لأن يُفكر بهذا وذاك على الرغم أنه قد لايكون لديه أي دافع بسيط أو ميل لفعل ذلك.
لكن عندما يُفكر الشخص لنفسه، فهو يتبع دوافع ذهنه، والتي تُحدد له في ذلك الوقت إما من بيئته أو من ذاكرته. فالعالم المرئي المحيط له لا يطبع على ذهنه فكرة قاطعة، لكنه بالأحرى يزوده بالمادة والسبب اللذان يقودانه إلى التفكير بما هو مناسب لطبيعته ولمزاجه الحالي. لذلك فإن القراءة الكثيرة تحرم الذهن من كل المرونة، تماما مثل الزنبرك الذي يقع تحت الضغط بشكل متواصل.
إن أفضل طريقة لدى المرء الذي ليس لديه أي أفكار هو أن يلتقط كتابًا.
وهذه الممارسة تشرح لنا كيف تزيد سعة الإطلاع أغلب الرجال أكثر غباء مقارنة بطبيعتهم، وكيف تمنع كتاباتهم من الحصول على أي نجاح. فهم يبقون كما يقول الكسندر بوب:
للأبد يقرأ، لكنه لا يقرأ
إن الأشخاص المتعلمين هم الذين قرأوا في صفحات الكتب. أما المفكرين فهم هؤلاء العباقرة الذين توجهوا مباشرة إلى الطبيعة. هم الذين أناروا العالم وساقوا البشرية إلى ذلك. إذا كان من اللازم أن تتضمن أفكار المرء الحقيقة والحياة، فيجب أن تكون تلك هي أفكاره الأساسية الخاصة به والتي يستطيع أن يفهمها بشكل كامل. إن قراءة أفكار الآخرين تشبه أخذ بقايا وجبة طعام من عشاء لم نُدعى إليه، أو ارتداء ملابس ألقاها شخص زائر لا نعرفه.
إن القراءة ليست إلا بديل لأفكارنا. تخدمنا الكتب المتعددة فقط عندما تُرينا الطرق الخاطئة الموجودة فيها، وكيف تضلل المرء الذي يتبع أيًا منها. لكن المرء الذي يُرشده عقله، والذي يفكر لنفسه، والذي يفكر بشكل عفوي وصحيح، يملك البوصلة الوحيدة التي تدله على الطريق الصحيح. يجب على المرء أن يقرأ فقط عندما تكون أفكاره الخاصة راكدة في منبعها، وهذا سوف يحدث غالبًا مع أفضل العقول. عندما يلتقط المرء كتابًا من أجل أن يطرد أفكاره بعيدًا فإنه يرتكب ذنبًا عظيمًا. هذا يشبه الهروب من الطبيعة من أجل أن يرى متحفًا مليء بالنباتات المجففة.
إن المرء ليكتشف أجزاء من الحكمة أو الحقيقة عندما يقضي وقتًا طويلًا ويبذل مجهودًا في التفكير لنفسه، ويجمع الفكرة مع الفكرة، -ومن الممكن أن يتجنب كل هذا العناء لو أنه التقط كتابًا- لكن هذه الطريقة هي أكثر قيمة بمئات المرات. لأننا عندما نكتسب معرفتنا بهذه الطريقة فإنها تُحفظ كعضو حي بداخل منظومة متكاملة في فكرنا، وسوف ترتبط في علاقة كاملة وحازمة مع مانعرفه، سوف تكون هذه المعرفة مفهومة مع كل ماتتعلق به وتتبعه، وسوف ترتدي نفس الشكل لطريقتنا في التفكير، وسوف نستعيدها في الوقت المناسب عندما نحتاجها، لأننا لن ننساها. وهذا هو التطبيق المثالي والترجمة المثالية لنصيحة ”غوته“ عندما أخبرنا باكتساب ميراثنا لأنفسنا بطريقة تجعلنا نمتلكه فعلًا:
”إن ماورثته من أجدادك كان ينبغي عليك أولًا أن تكسبه من أجل أن تمتلكه“
إن الشخص الذي يفكر لنفسه، يصنع آرائه الخاصة ويتعلم وضع المرجعيات الخاصة لها لاحقًا والتي ستقوي إيمانه بها وبنفسه.
لكن فيلسوف الكتب يبدأ من مرجعيات الآخرين. فيقرأ كتب الآخرين، ويجمع آرائهم ويكوّن مجموعة لنفسه تشبه رجلًا آليًا مصنوع من أي شيء إلا من اللحم والدم. في المقابل، فإن الشخص الذي يفكر لنفسه يصنع عملًا يشبه رجلًا خلقته الطبيعة.
إن الحقيقة التي اُكتسبت من الآخرين تشبه العضو الصناعي، أو السن الصناعي، أو أنفًا خالي من الشعر، مثل أنف خُلق من لحم آخر. هذه الحقيقة تلتصق بنا لأنها فقط وُضعت لنا. لكن الحقيقة التي اُكتسبت بالتفكير للذات تشبه العضو الطبيعي، فهي منتمية لنا. وهذا هو الاختلاف الأساسي بين المفكر وبين مجرد شخص يتعلم. فالبلوغ الثقافي للمرء الذي يفكر لنفسه يشبه لوحة ممتازة يتوزع فيها الضوء والظل في المكان الصحيح، وتكون الألوان متناغمة، فيصبح شكلها واقعي.
والعكس من ذلك، فالبلوغ الثقافي لمجرد شخص يتعلم يشبه لوحًا كبيرًا من الألوان من كل الأنواع، مرتبة بشكل ممنهج، لكنه مجرد من الانسجام والترابط والمعنى.
إن القراءة هي التفكير من خلال عقل شخص آخر بدلًا من التفكير الذاتي. فالتفكير الذاتي يهدف إلى تطوير منظومة متماسكة حتى وإن لم تكن كاملة، ولا يوجد شيء يعيقها إلا تيار أفكار شخص آخر والتي تأتي من القراءة المتواصلة. هذه الأفكار، تنبع من عقول مختلفة، تنتمي إلى أنظمة مختلفة، ومشوبة بألوان متنوعة، لكنها لا تصب مجتمعة في كيان ثقافي، ولا تُكوّن أبدًا وحدة معرفية أو بصيرة أو قناعة، لكنها بالأحرى تملأ الرأس بألسنة متبلبلة. إن الذهن الذي امتلأ بالأفكار الأجنبية هو ذهن محروم من البصيرة، وغير منظم.
وهذا حال الأمور الظاهرة لدى أغلب الأشخاص المتعلمين، والذي يجعلهم في أدنى منزلة من المنطق والحكم الصحيح والدبلوماسية مقارنة بالأشخاص غير المتعلمين الذين يكتسبون معرفة خارجية قليلة، ويجربون وسائل مختلفة يتعاملون بها مع الآخرين، وبقراءات قليلة يجسدونها مع أفكارهم.
إن الشخص المفكر حقًا يفعل نفس الأمر الذي يفعله هؤلاء غير المتعلمين لكن على نطاق واسع. فعلى الرغم أنه يحتاج إلى معرفة واسعة، ويجب عليه أن يقرأ كثيرًا، يجد أن عقله قوي بما فيه الكفاية لأن يتحكم به. فيستوعب ويدمج أفكاره، ويجعلها ملائمة لبصيرته، والتي تنمو بشكل مستمر. وأثناء عملية التطوير، فإن أفكاره الخاصة به، مثل الصوت العالي في آلة الآرغن، والذي يهيمن دائمًا على كل شيء ولا يغرق بسبب النغمات الأخرى كما يحدث في العقول المليئة بالمعارف الأثرية، والتي تختلط بها قصاصات من الموسيقى في كل مفتاح بشكل مشوش، ولا نستطيع سماع نوتة أساسية واحدة على الإطلاق.
هؤلاء الذين قضوا حياتهم في القراءة، وأخذوا الحكمة من الكتب، يشبهون الأشخاص الذين حصلوا على المعلومات عن دولة ما من تفاصيل أشخاص سافروا إليها. يستطيعون أن يصفوها، لكنهم في النهاية ليس لديهم أي روابط واضحة ومعلومات عميقة عن حالها الحقيقي. لكن الأشخاص الذين قضوا حياتهم في التفكير، يشبهون المسافرين أنفسهم، يدركون جيدًا ما الذي يتحدثون عنه، لأنهم على علم بالحالة الفعلية للأمور وهم في وطن الموضوع.
إن علاقة المفكرين بفلاسفة الكتب مثل شاهد العيان والمؤرخ. فشاهد العيان يتحدث من معرفة مباشرة خاصة به. وهذا مايجعل كل هؤلاء المفكرين يقدمون نفس الاستنتاجات. فالاختلافات تكون بسبب اختلاف آرائهم لكنها لا تؤثر في الأمر، فكلهم يتكلمون بشكل متشابه. فهم بالكاد يعبرون عن نتائج نظراتهم الخاصة إلى الأشياء. هناك العديد من الفقرات في أعمالي والتي قدمتها إلى الجمهور بتردد، بسبب طبيعتها المتناقضة، لكنني بعد ذلك اكتشفت وبشكل مفاجئ ورائع أنها تشبه بعض الآراء المسجلة لرجال عظماء عاشوا منذ زمن بعيد.
إن فيلسوف الكتب يخبرنا ماذا قال فلان وماذا كان يقصد شخص آخر. أو ما هي الاعتراضات التي قدمها شخص ثالث، وهكذا. هو يقارن آراء مختلفة، ويتأملها وينتقدها ويحاول أن يحصل على الحقيقة من الموضوع، ويشبه في ذلك المؤرخ الناقد. على سبيل المثال، هو ينطلق من بحث ما إذا كان ”ليبتنز“ لم يكن في وقت ما تابع لسبينوزا.. فالطالب الفضولي لهذه الأمور يمكن أن يجد أمثلة لافتة لما أقصده في كتاب هربرت ”التفسير التحليلي للأخلاق“ وكتابه الآخر ”رسالات في الحرية“. ستشعر بالغرابة عندما تجد أن هكذا شخصًا يضع نفسه في مشاكل كثيرة، لأنه لو اختبر الموضوع بنفسه، فسيحصل بسرعة على هدفه من خلال ممارسة التفكير. لكن هناك صعوبة ضئيلة في الطريقة. لأنها لا تعتمد على إرادته الحرة. يستطيع المرء دائمًا أن يجلس ويقرأ، لكنه لا يستطيع بسهولة أن يفكر. لأن التفكير لا يُستدعى بالمتعة، يجب علينا أن نجلس وننتظر الأفكار. فالفكرة عن موضوع ما يجب أن تظهر بنفسها، عن طريق مزيج سعيد ومتناغم من المحفزات الخارجية مع المزاج والانتباه، والذي يبدو أن هذا المزيج لايأتي أبدًا لهؤلاء الأشخاص.
يمكننا أن نتصور هذه الحقيقة من خلال مايحدث في حال الأمور التي تؤثر على مصالحنا الشخصية. فعندما يكون من الضروري أن نصل إلى حل ما، لانستطيع أن نجلس في أي لحظة ونفكر بالوقائع ثم نغير رأينا. لأننا لو حاولنا ذلك، فإننا غالبًا سنجد أنفسنا في لحظة معينة، عاجزين على أن نُبقي أذهاننا ثابتة على هذا الموضوع، لأن أذهاننا سوف تسرح إلى أمور أخرى. فالنفور من الموضوع أمر يُلام عليه. وفي هذه الحالة لا ينبغي أن نجبر أنفسنا، لكن يجب أن ننتظر ظهور حالة مزاجية ملائم للذهن. وهي غالبًا ستظهر بشكل غير متوقع وستعاود الظهور لمرات ومرات. إن اختلاف المزاج في أوقات مختلفة يضع الموضوع تحت الضوء. إنها طريقة طويلة نستطيع أن نفهمها عن طريق مصطلح ”الحل الناضج“ وهذا يعني أنه أثناء عملية الوصول إلى حل ما، فإن المجهود الذي يُبذل يجب أن يكون متفرقًا، وحينها سيظهر لنا الكثير مما تجاهلناه في لحظة ما، وعندما نقترب أكثر سندرك أن الكثير من اشمئزازنا سيتلاشى عندما نجد أن الأمور ليست سيئة كما تبدو.
تنطبق هذه القاعدة على حياة العقول والممارسات، يجب على المرء أن ينتظر التوقيت المناسب. لا يستطيع أفضل عقل أن يفكر لنفسه في كل الأوقات. لذلك فإن العقل العظيم يفعل حسنًا عندما يقضي وقت فراغه في القراءة، لأنه كما قلت أن القراءة بديل للأفكار، إنها تدع شخص آخر يفكر بدلا عنه. لذلك يجب على المرء أن لايقرأ كثيرًا، حتى لا يعتاد ذهنه على البديل وبالتالي ينسى الواقع، وحتى لا يُكوّن عادة المشي في طرق مستهلكة، أو يتبع منهجًا غريبًا اختلقه شخص آخر لنفسه. يجب على المرء أن لايسحب نظراته من العالم الحقيقي لمجرد القراءة، لأن الدافع والمزاج اللذان يدفعانه إلى التفكير يأتيان من الواقع أكثر من الكتب. فالحياة الحقيقية التي يراها المرء أمامه هي مادة طبيعية للتفكير، وفي قوتها نجد العنصر الأساسي للوجود، وبإمكانها أن تصبح أكثر سهولة من أي شيء آخر يؤثر على العقل المفكر.
إن كلا من الخبرة المجردة والقراءة القليلة تزوّدان الفكر. فالعلاقة بينهما وبين الفكر مثل العلاقة التي بين الأكل والهضم. فعندما تفتخر الخبرة بأن اكتشافاتها وحدها هي نتيجة لتقدم الجنس البشري، يبدو وكأن الفم يفتخر ويدّعي الفضل لوحده بالحفاظ على صحة الجسم.
نستطيع تمييز كل أعمال أصحاب العقول المبهرة بخاصيتين: الحسم والوضوح، هذا يعني أن هذه الأعمال واضحة وخالية من الغموض. فالعقل القادر بصدق يعلم جيدًا وبوضوح الشيء الذي يريد أن يُوضحه، وماهي الطريقة التي يستخدمها في التوضيح سواء كانت نثرًا أو شعر أو موسيقى. لكن العقول الأخرى تُعرف بأنها ليست واضحة وحازمة.
إن العلامة المميزة للعقل الراقي أنه يحكم بشكل مباشر. فكل شيء يقدمه إنما هو نتيجة للتفكير لنفسه، وهذا واضح في كل مكان يعبر فيه عن أفكاره. هذا العقل يشبه الأمير. ففي مملكة التفكير نجد أن سلطته امبراطورية، بينما نجد أن سلطة العقول الأقل مرتبة هي مهملة، ولا يوجد فيها أي استقلالية. فحشود العقول التي تعمل تحت كل أنواع الآراء والسلطات الجارية، مثل الناس، تطيع القوانين بهدوء وتتقبل الأوامر من فوقها.
إن أولئك المتحمسون لتسوية الأسئلة الجدلية عن طريق الاستشهاد بالحكماء، سيكونون سعداء حقًا إذا تمكنوا من وضع إدراك وبصيرة الآخرين في مكان خاص لهم. وهؤلاء عددهم كبير. وكما يقول سينيكا، لا يوجد هناك شخص إلا ويفضل الإيمان على التفكير برأي. ففي خلافاتهم، سيستخدمون مرجعيات الآخرين كسلاح يضربون به. فإذا أُتيحت الفرصة لأي شخص لأن يتورط في منافسة ما، فلن يستخدم المنطق والجدال كوسيلة دفاع، لأنهم سيكونون مثل ”سيغورد“ مع بشرة من العاج، مغموسون في فيضان من عدم القدرة على التفكير والتحكيم، سوف يقابلون هجومه بمرجعيات السابقين ثم سيصرخون أنهم ربحوا المعركة.
ففي العالم الحقيقي، غير العادل وغير اللطيف، نعيش وفقًا لقانون الجاذبية الذي يجب أن نتغلب عليه باستمرار. أما في عالم العقل، فنفصل أرواحنا عن أجسادنا ولا نقيدها إلى ثمة قانون، فنحررها من البؤس والقلق. لذلك لاتوجد سعادة على الأرض، إلى هذه اللحظة، مثل تلك التي يجدها العقل المثمر في نفسه.
حضور الفكر مثل حضور المرأة التي نحب. لا نرغب في نسيان الفكرة أو أن نكون لا مبالين تجاه شخص عزيز. لكن البعيد عن القلب، هو بعيد عن العين! إن أفضل فكرة ستكون عرضة لخطر النسيان إذا لم نكتبها كما أن المرأة التي نحب قد تتركنا إذا لم نتزوجها.
هناك العديد من الأفكار القيمة للمرء الذي يفكر بها، لكن قليل منها تصبح قوية إلى الدرجة التي تنتج عنها عملًا أو تعكس فعلًا من أجل أن تكسب عاطفة القارئ وذلك بعد أن تُدوّن على الورق.
لكننا يجب أن لا ننسى أن القيمة الحقيقية تتعلق فقط بما يفكر به المرء في الوهلة الأولى ”في حالته الخاصة“. قد يُصنف المفكرون وفقًا لما يفكرون أساسًا لحالتهم الخاصة أو لأحوال غيرهم. فالنوع الأول هم مفكرون مستقلون، لأنهم يفكرون أنهم مستقلون حقًا، لذلك هم فلاسفة بشكل حقيقي، وحيدون في إخلاصهم. فالمتعة والسعادة لوجودهم تكمنان في تفكيرهم. أما الآخرون فهم صوفية، يرغبون في الظهور بشكل ليس لهم، ويبحثون عن سعادتهم على أمل أن يجدوها في العالم. هم مخلصون بشأن أي شيء آخر. من خلال أسلوب المرء وسلوكه، يمكننا رؤية إلى أي من هاتين الفئتين ينتمي. ينتمي ”ليتنبرغ“ إلى الفئة الأولى، أما “هردر” فينتمي -بدون شك -إلى الفئة الثانية.
عندما يفكر المرء في مدى ضخامة وقرب ”مشكلة الوجود“ منا- هذا الوجود المبهم، والمُعذب، والعابر، والشبيه بالحلم لنا- والذي ما إن يحاول المرء اكتشافه حتى يجده يحجب جميع المشاكل والأهداف، وعندما يرى الشخص كيف أن كل الرجال مع استثناءات قليلة ونادرة، ليس لديهم أي وعي واضح عن المشكلة، وفوق ذلك يُظهرون أنهم غير واعين بحضورها، ويُشغلون أنفسهم بكل شيء عداها، ويعيشون حياتهم بدون أن يفكرون إلا في كيفية قضاء اليوم أو في مستقبلهم إما بتجاهل المشكلة بشكل واضح أو بتصالحهم معها من خلال تبني نظام شعبي ميتافيزيقي يُرضيهم.
..
هناك ٣ مراحل في المسرح، وهو الانعكاس المثالي للوجود الإنساني، من أجل عرض موضوع ما:
في البداية، وهو أمر شائع، نجد أن المسرحية هي ليست أي شيء لكنها ممتعة. يحصل الناس على انتباهنا بمجرد أن نتبع مقاصدهم، والتي تشبه مقاصدنا، وتتوالى الأحداث من خلال الوسائل التي تكيد بها الشخصيات والوقائع بينما يكون هناك الضحك والمواقف الذكية.
وفي المرحلة الثانية، تصبح المسرحية أكثر عاطفية. تُثار العاطفة مع البطل بشكل غير مباشر مع أنفسنا. تُدار الأحداث بشكل مثير للشفقة، لكن النهاية تكون مُرضية وسلمية.
لكننا نصل إلى الذروة مع المرحلة الثالثة، والتي تكون الأصعب. تهدف المسرحية إلى أن تكون تراجيدية. نحن نقف وجهًا لوجه أمام معاناة عظيمة وعاصفة من القلق الوجودي، وهذا من أجل أن نستعرض كل الجهود الإنسانية المختلفة. تحركنا الأحداث من الداخل، وحينها إما أن نحاول أن نتجاهل رغبتنا في المعاناة، أو أن ننسجم معها فنشعر بصدى مشاعر متشابهة.
إن البداية، كما قلنا، هي صعبة دائمًا. أما في المسرحية فهو العكس، لأن المصاعب تكمن في النهايات. وهذا مثبت في أغلب المسرحيات، فنجد المشهد الأول والثاني مريحًا، وبعد ذلك تصعب الأحداث خاصة في المشهد الرابع، وفي النهاية تكون غير مُرضية للجميع. لكن في بعض الأحيان، تكون النهاية إنقلابية بشكل إيجابي مثل مسرحية ليسينغ ”ايميليا جالوتي“ والتي بسببها يعود المتفرجون إلى منازلهم وقد فقدوا أعصابهم.
هذه الصعوبة تظهر في آخر المسرحية لأنه من السهل أن تتشابك الأمور من أن تُحل، كذلك لأننا في البداية نُعطي للبطل بطاقة بيضاء لأن يفعل ما يريد، ولأن يفعل أشياء معينة نطلبها منه في النهاية. لذلك نحن نرجو أن تكون النهاية إما سعيدة أو تراجيدية، بينما الأحداث الإنسانية لا تستطيع أن تتخذ قرار التحول بنفسها، ثم نتوقع أن تكون النهاية طبيعية وملائمة وغير ثقيلة وفي نفس الوقت ليست متوقعة.
هذه العلامات نستطيع تطبيقها على الملحمة والرواية، لكن الطبيعة المُحكمة للمسرح تزيد الصعوبة بشكل واضح.
لكن لاشيء ينبع من اللاشيء. هذه حكمة مأثورة في الفن كما في أي شيء آخر. إن الفنان الممتاز عند إبداعه لصورة تاريخية سيستخدم الرجال كنماذج، وسيستوحي رسم الوجوه من الأشخاص الذين حوله، ثم يمضي في تصويرها كرمز للجمال أو التعبير. وبطريقة مماثلة، هذا ما يفعله الروائيون. يستمدون الهيئة العامة لشخصياتهم من أشخاص حقيقين، ثم يصورون الشخصيات ويكملونها من أجل أن تناسب مقاصدهم.
إن الرواية العظيمة تكمن في إظهارها الحياة الداخلية أكثر من الخارجية. والنسبة بين الإثنين سوف تحدد جيدًا الحكم على أي رواية كانت من ”تريسترام شانداي“ إلى أكثر الحكايات عاطفة أو إثارة. فرواية “تريسترام شانداي“ ليس فيها أي نشاط، ولا توجد كذلك أي أحداث في ”سنوات تعلم فلهلم مايستر“. حتى رواية ”دون كيخوته“ فيها أحداث صغيرة نسبيًا لكنها ليست مهمة واُختلقت للمتعة. وهذه الروايات الأربعة هي أفضل الروايات على الإطلاق.
فكر في الرومنسيات الرائعة لجان بول، وكيف عُرضت الحياة الداخلية في أضيق نطاق من الأحداث. حتى في روايات والتر سكوت توجد سيطرة عظيمة على الحياة الجوانية مقارنة بالحياة الخارجية، ولا توجد أحداث باستثناء المهم منها لغرض المتعة أو إثارة المشاعر. لكن في الروايات السيئة نجد الأحداث من أجل اعتبارها الخاص. إن المهارة تتضمن في تنظيم الحياة الجوانية لتتحرك مع أصغر شعاع محتمل من الظروف، وهذه هي الحياة الجوانية التي تثير اهتمامنا بشكل حقيقي.
فعمل الروائي هو أن لا يكتب الأحداث العظيمة فحسب، بل ويجعل الأحداث الصغيرة ممتعة.
أما التاريخ، والذي أحب أن أفكر به وكأنه نقيض الشعر، فهو للزمان كما أن الجغرافيا هي للمكان. ولا نستطيع أن نقول أن التاريخ هو علم، بأي منطق صارم لتلك الكلمة، كما هي الجغرافيا، لأنه لا يتعامل مع حقائق عامة، ولكن مع أحداث معينة. إن التاريخ هو مجال مفضل للدراسة بالنسبة إلى هؤلاء الذين يرغبون في تعلم شيء ما، وبدون مواجهة الجهود المطلوبة من قبل أي فرع للمعارف الحقيقية، والتي تختبر الذكاء. ففي زماننا، نجد أن التاريخ هو شاهد عيان على العديد من الكتب التي تظهر في كل عام.
يستطيع القارئ أن يتخيل معي أن التاريخ هو مجرد تكرار مستمر لأشياء متشابهة، كما في المشكال الذي يحتوي على قطع زجاجية صغيرة لكن في مجموعات مختلفة، عندها لن يكون باستطاعته أن يشارك كل الاهتمامات ولن يستنكر ذلك. لكن هناك ادعاء سخيف من قبل كثير من الناس، يفيد أن التاريخ هو جزء من الفلسفة، لا فلسفة بحد ذاتها، وهم يتصورون أن التاريخ يمكن أن يحل محلها.
إن العقل في التاريخ مشغول بتفاصيل معينة، مثل كل محادثة جديرة بالاهتمام، أما في العلوم، فإن العقل يرتقي إلى البحث في الحقائق العامة.
إن هذا الاعتراض لا يسلب التاريخ قيمته. فإن حياة الإنسان قصيرة وعابرة، ويشاركها ملايين الأشخاص الذين اُبتلعوا من قبل وحش النسيان والذي ينتظرهم بفك واسع مفتوح. إنها لمهمة قيمة من أجل محاولة إنقاذ شيء ما: ذكريات أحداث مهمة وممتعة، أو سمات لشخصيات رائدة في حقبة ما من حطام سفينة العالم.
لكن من وجهة نظر أخرى، فإننا ننظر إلى التاريخ كنظرتنا إلى علم الحيوان. يمكننا أن نراقب وندرس البشر كما الحيوانات، لأن كل شخص لديه شخصية تستحق الدراسة. وبما أن عدد الأشخاص والأحداث كبير للغاية ولا نهاية له، فهنا نجد عيبًا أساسيًا في التاريخ. كل ما يتعلمه الإنسان لا يساهم في تقليل مابقي عليه من المعرفة التي يجب أن يتعلمها.
عندما ندرس تاريخ الصين والهند، سنجد أمورًا كثيرة جدًا تكشف لنا العيوب في الدراسة، وتجبر المؤرخين على رؤية أن هدف العلم هو أن يدركوا أن الكثير في الواحد، وأن يميزوا المبادئ في أي نموذج، وأن يطبقوا المعرفة البشرية على حياة الأمم، وأن يتوقفوا عن عد الحقائق إلى مالا نهاية.
هناك نوعين من التاريخ، تاريخ السياسة وتاريخ الآداب والفنون. فالأول هو تاريخ الإرادة، أما الثاني فهو تاريخ العقل. الأول هو حكاية المشاكل والرعب. هو سجل للمعاناة والكفاح والتزييف والقتل الجماعي المريع. أما الثاني فهو كل ماهو مريح وهادئ، مثل العقل في الخلوة حتى وإن كان طريقه خاطئًا. ففرعه الأساسي هو تاريخ الفلسفة.
إن الصحف هي ساعة التاريخ المستخدمة، وهي ليست فقط مصنوعة من معدن رديء ولكنها أيضًا تشير إلى التوقيت الخاطئ. أما المقال فيها هو جوقة لدراما الأحداث العبارة. إن المبالغة في كل شيء هي أساسية في الصحافة كما هو الحال مع الفن الدرامي، فهدف الصحافة هو أن تجعل الأحداث تذهب إلى أبعد ما يمكن. لذلك فإن كل الصحفيين مذعورين وهذه هي طريقتهم في إضافة الاهتمام إلى ما يكتبونه. هم مثل الجِراء الصغيرة، إذا حدثت هناك ضجة، فسينبحون على الفور.
فلنحذر بعناية من بوق الخطر هذا حتى لا يزعج عملية الهضم لدينا. دعونا ندرك أن الصحف في أفضل أحوالها هي عبارة عن عدسة مكبرة، وفي كثير من الأحيان مجرد صورة على الحائط.
قد يُعتقد أن القلم مثل العصا للمشي، لكنك تمشي بسهولة عندما لا تعتمد على العصا، وتفكر بمثالية عندما لا تحمل قلمًا في يدك. لكن فقط عندما يتقدم المرء في السن يحب أن يستخدم العصا ويسعده أن يلتقط قلمه.
عندما تولد فرضية في العقل، أو تكتسب موطئًا هناك، فإنها تقود حياة مماثلة لحياة كائن حي حيث تستوعب المادة من العالم الخارجي عندما تتشابه معها وتفيدها والعكس عندما لا تشبهها وتؤذيها فإن الفرضية مثل الكائن الحي تقذف بها أو تتخلص منها إذا أُجبرت على أخذها.
لاكتساب الخلود، يجب على المؤلف أن يمتلك عددًا كبيرًا من الامتيازات إلى درجة أنه لن يكون من السهل عليه أن يجد أي شخص يفهمها ويقدرها، سيوجد هناك العديد من الأشخاص في كل العصور والذين بإمكانهم أن يميزوا ويقدروا بعضها. في هذه الحالة سيحافظ على كتاباته خلال القرون الطويلة، على الرغم من أن اهتمامات البشر ستتغير دائمًا.
فمؤلف كهذا، والذي يدعي استمرارية حياته مع الأجيال القادمة، يستطيع أن يكون رجلًا على هذه البسيطة الواسعة يبحث عن شبيهه بدون جدوى، ويُظهر تناقضًا ملموسًا مع أي شخص آخر بفضل تميزه الواضح عن الآخرين. وأكثر من ذلك، لو أنه عاش مثل اليهودي التائه عبر الأجيال المتعددة، فسوف يظل في نفس مكانه السامي. إذا لم يحدث ذلك، فسوف يكون من الصعب أن نفهم عدم هلاك أفكاره مثل أفكار الآخرين.
إن الاستعارات والتشبيهات لها قيمة كبيرة، لأنها تشرح العلاقة المجهولة بالعلاقة المعروفة. حتى التشبيه المفصل والذي ينمو ليكون مثلًا أو قصة ليس أكثر من عرض لعلاقة ما بأبسط وأوضح شكل. إن نمو الأفكار يعتمد في الأساس على التشبيهات، لأن الأفكار تنشأ من خلال عملية الجمع بين المتشابهات وتجاهل الاختلافات بين الأشياء. إن الذكاء بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، يتألف من فهم العلاقات، وغالبًا ما تُفهم العلاقات بشكل واضح إذا أُجريت مقارنات بين الحالات المختلفة تمامًا. طالما أن العلاقة معروفة لي وتوجد في حالة واحدة، فليس لدي إلا فكرة واحدة عنها، أو بمعنى آخر، معرفة حدسية فقط عنها. لكن مجرد أن أرى العلاقة نفسها في حالتين مختلفتين، سيكون لدي فكرة عامة عن طبيعتها الكاملة، وهذه معرفة أكثر عمقًا وكمالًا.
نظرًا لأن التشبيهات والاستعارات تُعد محركًا قويًا للمعرفة، فإنها دلالة على ذكاء عظيم من الكاتب خاصة إذا كانت تشبيهاته غير مألوفة، وفي نفس الوقت، دقيقة. لاحظ أرسطو أن أهم شيء بالنسبة للكاتب هو امتلاك قوة الاستعارة هذه، لأنها موهبة لاتستطيع أن تُكتسب، وهي علامة على العبقرية.
بالنسبة للقراءة، فإن اشتراط أن يتذكر المرء كل شيء قرأه يشبه اشتراطنا له على أن يحمل كل شيء قد أكله من قبل. فالنوع الثاني قد غذى جسده أما النوع الأول فقد غذى عقله، ومن خلال هذه الطريقتين أصبح الشخص الذي عليه. إن الجسم ليستوعب فقط ما يشبهه، وهكذا يحتفظ الإنسان في عقله ما يهتم به، أو بمعنى آخر، ما يناسب نظام أفكاره ومقاصده في الحياة.
إذا أراد المرء أن يقرأ كتبًا جيدة، فيجب أن يتنجب الكتب السيئة لأن الحياة قصيرة، وطاقة المرء ووقته محدودان.
أي كتاب مهم يجب أن يُقرأ مرتين، لأن في القراءة الثانية ستكون الأجزاء المختلفة من الكتاب مفهومة بشكل أفضل، ونستطيع فقط أن نفهم بداية الكتاب إذا كانت النهاية معلومة. ستكون رغباتنا رغباتنا وطباعنا في القراءة الثانية مختلفة عن القراءة الأولى، فنحصل على منظور جديد لكل قطعة نقرأها، وانطباع مختلف عن الكتاب ككل.
إن أعمال المرء هي خلاصة عقله، وحتى إذا كان يمتلك مقدرة عظيمة للغاية، فستكون هذه الأعمال أكثر قيمة من حواراته. لن تُعوض أعماله انعدام الحوار معه فقط، بل وستتفوق عليه بمزايا نافعة. حتى كتابات الشخص متوسط العبقرية قد تكون مفيدة وتستحق القراءة والتوجيه لأنها خلاصة ونتيجة كل أفكاره ودراساته، في حين أن الحوارات معه قد تكون غير مرضية.
لذلك يمكننا أن نقرأ كتبًا لأشخاص لا تُمتعنا مصاحبتهم، ولأن المرتبة العالية من الثقافة قد تقودنا إلى البحث عن المتعة بشكل كامل من الكتب وليس من الرجال.
مقالة “عن التفكير للذات” من مقالات شوبنهاور، ترجمتها بتصرف
عندما يلتقط المرء كتابًا من أجل أن يطرد أفكاره بعيدًا فإنه يرتكب ذنبًا عظيمًا. هذا يشبه الهروب من الطبيعة من أجل أن يرى متحفًا مليء بالنباتات المجففة.
ماذا لو كانت تلك الطبيعة التي يهرب منها صحراء قاحلة او مستنقعات
الا يكون المتحف احسن له ؟!
عندما يلتقط المرء كتابًا من أجل أن يطرد أفكاره بعيدًا فإنه يرتكب ذنبًا عظيمًا. هذا يشبه الهروب من الطبيعة من أجل أن يرى متحفًا مليء بالنباتات المجففة.
ماذا لو كانت طبيعة الشخص صحراء قاحلة او مستنقعات … الا يكون المتحف احسن له؟!