عندما كان أبو القارح في ”رسالة الغفران“ يتنقل في الجنة ويقابل شعراء الجن والإنس يحاورهم ويناقشهم في الشعر واللغة، وجد حيّات يسرحن ويمرحن، فتعجّب لذلك أشد العجب وقال ”لا إله الله.. وماتصنع حيّة في الجنة؟“ فأجابته حية تُدعى بذات الصفا بفخر عن وفائها في الدنيا، وكيف أن النابغة الذبياني أنشد فيها شعرًا جرى ذكره بعد ذلك على ألسنة العرب. فماذا كانت حكايتها؟
يُحكى أن أخوين كانا فيما مضى في إبلٍ لهما، فأجدبت بلادهما وكان قريباً منهما وادٍ، يقال له: عبيدان فيه حية قد أحمته فقال أحدهما لصاحبه: هل لك في وادي الحية، فإنه ذو كلأ؟ فقال أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحداً لم يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته؟ فقال: والله لأفعلنّ!
فهبط ذلك الوادي فرعى فيه إبله، فبينما هو ذات يومٍ في آخر الإبل نائمٌ إذ رفعت الحية رأسها فأبصرته، فأتته فقتلته، ثم دخلت جحرها، وأبطأت الإبل على أخيه فعرف أنه قد هلك، فقال: ما في الحياة بعد أخي خيرٌ، ولأطلبن الحية، ولأقتلنها، أو لأتبعن أخي.
فهبط ذلك الوادي فطلب الحية، ليقتلها، فقالت له: ألست ترى أني قد قتلت أخاك، فهل لك في الصلح، فأدعك ترعى الوادي فتكون فيه، وأعطيك ما بقيت ديناراً يوماً ويوماً لا؟ قال: أو فاعلة أنت؟ قالت: نعم. قال: فإني أقبَل. فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضرها، وجعلت تعطيه ما ضمنت له، فكثر ماله ونبتت إبله، حتى صار من أحسن الناس حالاً.
ثم إنه ذكر أخاه ذات يوم فدمعت عيناه، وقال: كيف ينفعني العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخي؟ فعمد إلى فأس فأحدها، ثم قعد، فمرت به، فتبعها، وضربها فأخطأها، ودخلت جحرها، ووقعت الفأس فوق جحرها فأثرت فيه، فلما رأت ما فعل، قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه.
فلما رأى ذلك تخوف شرها وندم، فقال لها: هل لك أن نتواثق ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك، وأنت ترى قبر أخيك، وأنت فاجر لا تبالي بالعهد؟.
وفي رواية أنها قالت “أبى الصلح القبر الذي بين عينيك، والضربة التي فوق رأسي. فلن تحبني أبداً ما رأيت قبر أخيك، ولن أحبك ما كانت الضربة برأسي. إنا لن نحبكم ما ذكرنا ما صنعتم بنا، ولن تحبونا ما ذكرتم ما صنعنا بكم“. .
*خزانة الأدب- البغدادي*
ماتت حية ذات الصفا ودخلت جنة أبي العلاء المعري. الجدير بالذكر أن الحية كانت قاتلة في بادئ الأمر فكيف جعلها المعرّي في الجنة؟ يظهر أن هذا الوادي يُنسب إلى هذه الحية فهو مسكن لها، والمقتول اقتحم الوادي وانتهك حرمته وبالتالي ماكان الإعتداء من الحيّة إلا دفاعًا منها. ولكنها وفّت لأخيه عندما اتفقت معه وظلت كذلك على العهد حتى ضربها على رأسها بالفأس.
وإذا تذكرنا المثل العربي الشهير ” لايُلدغ المؤمن من جحره مرتين“، نجد أن الحية المؤمنة هذه تأبى أن تُلدغ مرة أخرى فرفضت الصلح وأشارت إلى الضربة التي فوق رأسها ”إنا لن نحبكم ماذكرنا ماصنعتم بنا، ولن تُحبونا ما ذكرتم ماصنعنا بكم“.
انتشرت الأسطورة بين العرب الذين -مع ذلك- جعلوا من الحية رمزًا للخيانة والغدر. ففي الموروث القديم، يشير كيليطو أن الحية أغوت آدم وحواء بالأكل من شجرة المعرفة ”لكن المفسرين لم يتوانوا في إسناد دور إلى الحية. ولمّا حُظر على إبليس دخول الجنة، قصد الحية فأغواها بأن وعدها بالخلود. تحوّل إلى ريح وجعل نفسه بين أنياب الحية (لم تكن آنئذٍ حية: كانت لها أربع قوائم من أحسن دابة خلقها الله) يستقرّ إبليس إذن في فم الحية التي تدخل به سرًا إلى الجنة. وبواسطة لسان الحية يفتن الرجل والمرأة… عقابها سيكون شديدًا، ففي سفر التكوين يلعنها الرب وينطق في حقها عقوبة مزدوجة (على بطنك تزحفين، وترابًا تأكلين طول أيام حياتك).. ويُعدّد عقوبات أخرى، فقد شق الله لسان الحية جاعلًا منها حيوانًا مشطورًا.. حيوانًا ذا لسانين“.
يذكر كيليطو أن الجاحظ استنتج في كتابه الحيوان أن الحية ”لما يهاجمها الإنسان، تُخرج لسانها المشقوق كما لو كانت تُذكّره بتواطؤ قديم وبالعقوبة التي أصابتها بعد تورطّها في المأساة الأصلية“.
إذن فالحية رمز للخيانة، وقد جعل محمد بن سيرين (أو في كتابه المنحول إليه) من الحية عدوًا، فالذي يرى حية في منامه إنما يرى عدوًا، فإن قتلها في المنام ظفر بعدوه في الحقيقة.
نعود إلى أبي القارح، لنجده يتحدث مع حيّة أخرى تخبره أنها كانت تسكن في دار الحسن البصري- التابعي إمام أهل البصرة- وأنها قد حفظت القرآن من تلاوته، بل أنها سافرت من البصرة إلى الكوفة لتُقيم في جوارِ أحد القرّاء السبعة. لكنها أنكرت عليه بعض القراءات وجاءت بأقوالٍ للنحويين منهم سيبويه حتى تعجب منها أبو القارح أشد العجب، حيّة أديبة!
الأعجب من ذلك أن هذه الحيّة بدأت تغوي صاحبنا وتقارن نفسها بغواني الجنة فتسأله ”ألا تقيم عندنا بُرهة من الدهر؟
فلو ذُقت ريقي لوجدته أفضل من الخمر التي ذكرها ابن مقبل في قوله:
سقتني بصهباء درياقة .. متى ما تُليّن عظامي تلنِ
(الدرياقة هي الخمر)
ولو تنفسّتُ في وجهك لأدركت أن عبلة صاحبة عنترة كانت ذات رائحة فم كريهة (تقصد قول عنترة:
وكأن فارة تاجر بقسيمة .. سبقت عوارضها إليك من الفمِ
(فارة=وعاء العطر)
ولو أدنيتَ وسادتك إلى وسادتي، لفضّلتني على ليلى (تقصد ليلى صاحبة المجنون).. ولو أقمتَ عندنا إلى أن تخبر وُدّنا لندمتَ إن كنت في الدنيا قتلت حيّة!
بالطبع يُذعر صاحبنا، ويهرب منها.
فالحيّة هنا تُقارن نفسها بعبلةٍ وليلى، وكأنها امرأة مثلهم. وهذا يذكّرنا بهؤلاء الذين ربطوا بين لفظتي الحية وحواء وكأن بينهما علاقة في إخراج آدم من الجنة، وبالشعراء الذين ربطوا بين الحية والمرأة في تشبيهات كثيرة، بل وبالمستظرفين الذين وصفوا المرأة بالحية لمكرها وخبثها فيروى عن أحدهم أنه قال ابني حيّ يُرزق، وزوجتي حيّة تسعى.
تنبغي الإشارة إلى أنه لايوجد من الحيوانات في جنة المعرّي غير هذه الحيّات، وأسد، وأيضًا ذئب كان قد كلّم الأسلمي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. هناك أيضًا طاووس وإوزة، لكنهما طعامان لأهل الجنة. ليس هناك خيل، أو ناقة وهما من الحيوانات التي كانت تفتخر بهما العرب، بل أسد وذئب وحيّات يسرحن ويمرحن كما الإنس والجن المتمتعون في جنات النعيم.
عرضك لها لذيذ يا نجلاء، مع أني أذكر كلام كيليطو، إلا أنه هنا بدا فتّانًا أكثر!
الأكيد أن كلام كيليطو هو الذي جمّل تدوينتي
شكرًا لكِ على مرورك الله يسعدك
رررررررررائع
هل الكتاب السابق مصدرك ؟
نعم، رسالة الغفران للمعري