إن الجهل ليحط من شأن الرجل إذا كان غنيًا فقط، أما الرجل الفقير المقهور بفقره وبتعاسته فإن عمله يحل محل العلم ويشغل أفكاره. لكن الأثرياء الجاهلون، فهم يعيشون من أجل متعتهم، ويشبهون بذلك الحيوانات الذين نراهم بشكل يومي. يجب علينا أن نوبخهم لأنهم لم يستفيدوا من فراغهم وثروتهم والتي كان بإمكانها أن تضيف عليهم أكبر قيمة ممكنة.
عندما نقرأ، فإن هناك شخص ما يفكر لنا. لا نفعل شيئًا سوى أن نكرر عملية التفكير الخاصة به. هذا يشبه الطالب الذي يتعلم الكتابة فيضع قلمه فوق الخطوط التي وضعها له المعلم. أثناء القراءة، تؤخذ منا عملية التفكير، وهذا مانلاحظه أننا عندما نرغب في الهروب من الأفكار نهرع إلى القراءة.
عندما نقرأ تصبح أذهاننا ملعبًا لأفكار الآخرين، وعندما تغادر أفكارهم الملعب فما الذي يبقى؟
النتيجة هي أن الذي يقرأ كثيرًا طوال اليوم ويقطع ذلك بالترفيه عن نفسه بهوايات مجردة من الأفكار، سيخسر بشكل تدريجي قدرته على التفكير لنفسه. وهذا مثل الشخص الذي يركب العربة بشكل دائم وينسى كيف يمشي. هذه هي المشكلة مع الكثير من العلماء، لقد قرأوا إلى أن جعلوا من أنفسهم أغبياء.
إن القراءة المتواصلة هي معيقة للذهن أكثر من العمل اليدوي، لأننا في العمل اليدوي نستطيع أن نسرح بأفكارنا. القراءة المتواصلة تشبه الزنبرك الذي يخسر مرونته بسبب ضغط جسم غريب عليه، وهذا ينطبق على العقل الذي تضغط عليه أفكار الآخرين. وتُشبه أيضًا المعدة التي نملأها بالطعام الكثير الذي يؤذي الجسد، وهذا بالضبط مانفعله عندما نحشر العقل بالكثير من الغذاء العقلي.
إذا قرأنا كثيرًا فإننا سنترك القليل من الأثر على أذهاننا بما قرأناه مسبقًا. ستصبح أذهاننا مثل السبورة التي كتب عليها أشخاص كثيرون الواحد تلو الآخر. وبالتالي لانستطيع أن نفكر مليًا في ما قرأناه، لأن الطعام لايغذينا بمجرد تناوله ولكن فقط إذا هضمه الجسم. إذا قرأنا بدون أن نفكر جليًا بعدها عما قرأناه، سيضيع حتمًا.
بشكل عام، فإن التغذية العقلية مثل الجسدية، يُهضم من الغذاء خُمسه أما الباقي فيضيع من خلال التبخر والتنفس والخ. بالإضافة إلى كل هذا، فإن الأفكار التي تُلخّص على الورق لا تعدو أكثر من مجرد آثار أقدام لشخص على الرمل، نستطيع أن نرى الطريق من خلال هذه الآثار لكن من أجل أن نرى ما الذي شاهده الشخص، يجب أن نستخدم أعيننا.
كما تحافظ الأرض بين طبقاتها على الكائنات الحية في العصور الماضية، كذلك تحافظ أرفف المكتبات على أخطاء العصور الماضية وكذلك على شروحها. فمثل الكائنات الحية، كانت هذه الكتب حية في أيامها وقد أشغلت الناس في زمانهم، لكنها الآن متحجرة ولا يهتم بها إلا علماء الحفريات.
طبقًا لهيرودتس، فإن زركسيس|خشايارشا الأول بكى عند رؤيته لحشد جيوشه العظيم، لأنه فكّر أن كل هؤلاء، الآلاف منهم، لن يبقوا على قيد الحياة بعد مئة سنة. لكن من سيمتنع عن البكاء أيضًا عند رؤية القائمة الجديدة لدار لايبيزيغ للنشر عندما يفكر أن كل هذه الكتب لن تصبح حية بعد ١٠ أعوام؟
إن الكتابات مثل الحياة، كلما استدرنا صادفنا رعاعًا معوقًا من البشر نجدهم في كل الحشود، يملأون ويدنسون كل شيء، مثل الذباب في الصيف. ولذلك نجد عددًا كبيرًا من الكتب السيئة، كالأعشاب الضارة التي تحرم سنابل القمح من الغذاء. إن هذه الكتب تُضيّع كل الوقت والمال وانتباه العامة بادعائها حق الانتماء إلى الكتب الجيدة، لأنها كُتبت من أجل المال أو الحصول على المناصب. لذلك فهي ليست غير مفيدة فقط، بل مؤذية بشكل جاد. حوالي ٩ أعشار الكتب الموجودة في زماننا ليس لديها أي هدف غير استخراج المال من الجيوب. إن كل من المؤلف، والناشر، والناقد قد تآمروا بشكل جيد على ذلك.
إن فن عدم القراءة هو فن مهم للغاية. فهو مبني على تجاهلنا لما يُشغل الجماهير في أي وقت، مثل الكتب في الأمور السياسية، أو المنشورات الثقافية، والروايات، والقصائد، والتي تُحدث ضجة ويصبح لها العديد من الإصدارات في السنوات الأولى والأخيرة من حياتها. وعلى العكس، فإننا يجب أن نبقي في أذهاننا أن أي شخص يكتب للحمقى سيجد دائمًا جمهورًا كبيرًا، وأننا يجب أن نكرس وقتنا الضئيل من أجل قراءة الأعمال العظيمة لكل الشعوب وفي كل الأزمنة.. هذه الأعمال فقط هي التي تُعلم وتوجه. .. إن الكتب الدخيلة هي سم فكري يدمر العقل.
هناك الكثير من الكتب التي أُلفت عن الأشخاص العظماء ويقرأها العامة، لكنهم لا يقرأون أعمالهم. لأنهم يقرأون فقط ماهو جديد ولأن الطيور على أشكالها تقع تجد أن كل هذا الهذيان هو أكثر قبولًا وإعجابًا من أفكار العقول العظيمة.
إنني ممتن للقدر الذي قدّم لي في شبابي الحكمة التي قالها ”أوغست فلهلم شليجل“ والتي أصبحت دليلي:
اقرأ للأقدمين بحذر، العظماء منهم والحقيقيون
لأن أغلب مايقوله المعاصرون عنهم ليس حقيقيًا
أوه، كم تتشابه العقول مع بعضها البعض! كلها مصنوعة من نفس القالب! نفس الخواطر، وليس شيء آخر مختلف، تتوارد على كل واحد منهم في نفس الموقف! فضلًا عن ذلك، نحن نفهم مقاصدهم وأهدافهم الخسيسة. تُقرأ أعمالهم غير القيمة من قبل جمهور أحمق، أما أعمال العقول العظيمة فتُنحى جانبًا على أرفف المكتبات.
إن السلوك الأحمق للجماهير لهو مذهل، لأنه يترك أعمال العقول النبيلة والنادرة في كل فروع المعرفة من كل الدول والعصور غير مقروءة، وذلك من أجل قراءة خربشات عقول متشابهة والتي تظهر بشكل يومي، ومثل الذباب، تفقس سنويًا في أسراب. كل هذا يحدث بسبب أنها جديدة وطازجة من المطبعة. يجب أن نتجاهل هذا الإنتاج ونعامله بازدراء منذ ولادته لأنه سيكون كذلك بعد مضي بضعة أعوام. وبعد مرور الوقت سيغدو موضوعًا للضحك على الأجيال القديمة وتفاهاتها.
في كل الأزمان، هناك نوعين من الأدب والذي يُنتج باندماج مع بعضه ولكن بشكل مستقل، هناك نوع حقيقي ونوع ظاهري:
١-النوع الحقيقي ينمو إلى أن يُدرج تحت الأدب الدائم، والذي يُطور من قبل هؤلاء الذين ”يعيشون من أجل” التعلم أو الشعر، فهو ينمو بشكل جدي وهاديء لكن ببطء شديد، فأوروبا بالكاد تنتج كل قرن درزينة من الأعمال القابلة للعيش.
٢- أما النوع الآخر من الأدب فهو الذي يُطور من قبل هؤلاء الذين ”يقتاتون من“ التعلم أو الشعر. فهذا النوع يعدو سريًعا ويتميز بالصخب، فنرى سنويًا في الأسواق الآلاف من الكتب. لكن بعد سنوات قليلة، سيسأل شخص ما أين هذه الأعمال وكيف أصبحت بعد شهرتها والتي كانت صاخبة وغير ناضجة. نستطيع أن نصف هذه النوع الأخير الأدب الجارف أما الأول فبالأدب الباقي.
إن شراء الكتب لهو أمر جيد إذا استطعنا أن نشتري الوقت لقراءتها. عندما نشتري الكتب يجعلنا نشعر بشكل خاطيء بأننا امتلكنا محتواها.
إذا توقعت أن يتذكر الشخص كل ما قرأه فهذا يعني أنك تتوقع منه أيضًا أن يحمل في جسمه كل الطعام الذي تناوله. لأنه بالطعام قد عاش بجسده، أما بالقراءة فقد عاش بعقله وهكذا أصبح الشخص الذي هو عليه الآن. لكن الجسم سيندمج مع ماهو متجانس معه، وهكذا سيتذكر كل شخص الأشياء التي تستهويه وتناسب نظام أفكاره ومقاصده.
”إن التكرار هو المصدر الرئيسي للتعلم“.
كل كتاب مهم يجب أن يُقرأ مرتين لأن المواضيع التي يتناولها ستكون مفهومة بشكل أفضل في القراءة الثانية، وعندما نعلم نهايات الكتاب سنفهم جيدًا بداياته. كذلك فإن مزاجنا في القراءة الثانية سيكون مختلفًا عن القراءة الأولى. وهكذا سيختلف انطباعنا عن الكتاب عن المرة السابقة وكأننا ننظر إلى قطعة ما تحت ضوء مختلف.
إن الأعمال هي خلاصة العقل، لذلك إذا كان المرء يملك عقلًا عظيمًا فإن أعماله ستكون أكثر قيمة من مصاحبته. حتى كتابات المرء ذو العقل المتواضع قد تكون ممتعة ومفيدة وتستحق القراءة، لأنها خلاصة عقله، نتيجة وثمرة كل أفكاره ودراساته، لكن مصاحبته قد لاترضينا. لذلك نستطيع قراءة كتب هؤلاء الذين لا تُمتعنا مرافقتهم، أما ثقافات العقول العظيمة فتساعدنا في إيجاد المتعة في الكتب وليس لدى الناس..
لا يوجد شيء يبعث العقل كما تفعل الكلاسيكيات القديمة. فحالما يقرأ المرء واحدة منها ولو لنصف ساعة، سيشعر بالإنتعاش وبالراحة وبالنقاء وبالعظمة والقوة، وكأنه يستجم عند جدول جبلي. هل يعزو هذا لكمال اللغات القديمة؟ أم إلى عظمة العقول التي ستبقى أعمالها سليمة لقرون؟ من الممكن أن يكون السبب خليط من هذا وذاك.
فالذي أعرفه أننا عندما نتوقف عن تعلم اللغات القديمة كما في زمننا الحالي، فستظهر لنا طبقة جديدة من الأدب وستحتوي على الكتابات الأكثر همجية وغباء وعديمة النفع من أي وقت مضى. أما اللغة الألمانية على وجه الخصوص، والتي تتكون من بعض اللغات القديمة الجميلة، ستُخرب بشكل منهجي من قبل هذه الخربشات عديمة النفع حتى تصبح شيئًا فشيئًا لغة فقيرة ومُعاقة وبائسة.
إن نصف قرن من الزمن لهو وقت معتبر في تاريخ الكون لأن المادة التي تكونه تتغير بشكل دائم، هناك شيء ما يحدث دائمًا. لكن بالنسبة إلى الأدب، فإن نفس الفترة الزمنية ستذهب هباء على الأغلب، لأنه لم يحدث شيء، ولا تُحتسب المحاولات غير البارعة، لذلك نحن هنا بالضبط كما كنا قبل خمسين عامًا.
آرثر شوبنهاور – مقالته عن “الكتب والقراءة” ترجمتها بتصرف
رائع جدا!!
مقالة جيدة وممتعة تستدعي الإنتباه
تحياتي لك
شكرًا سناء على مرورك
مقالات قيمة جدا
متابعة لمدونتك قديمة جداً ازورها بين الفينة والاخرى لاستمتع .
شكرًا سهام ❤️محظوظة بوجود متابعين مثلك 🙏🏻