إنكار الموت

الخوف من الموت – ذلك البلد المجهول الذي لا يعود منه المسافر أبدًا- يُحيّر إرادتنا،
ويجعلنا نُؤثر تحمل المكروه الذي نعرفه
على الهرب منه إلى المكروه الذي لا نعرفه

شكسبير على لسان هاملت – الفصل الثالث، المشهد الأول

الخوف من الموت، من أن حياتنا على هذه الأرض سوف تنتهي يومًا لهو أمر عظيم. وإنتهاء هذه الحياة كما نرى مع الأسف الشديد يتخذ شكلًا مأساويًا في العادة، فتنتهي حياة شخص ما لإصابته بمرض عضال أو بمرض من أمراض الشيخوخة، أو لحادث عرضي كاصطدامه بسيارة، أو بالحرق أو بالغرق.. سبب قوي قاسٍ ينزع منه الحياة، وتتعدد الأسباب والموتُ واحد. ونُدرك بأن أكثر حقيقة مُؤكدة على وجه الأرض هي حقيقة الموت. فقد “تُنكر العين ضوء الشمس من رمد.. ويُنكر الفم طعم الماء من سقم” وينكر البعض كُروية الأرض، ووجود الله، لكن لن يستطيع أي شخص أن ينكر وقوع الموت.

نخاف أيضًا من الموت لأنه أمر مجهول، ولدينا بعض المعتقدات الراسخة والمخيفة، كسكرات الموت، ونهش الديدان لجسد الإنسان الجميل، وحياة البرزخ، ثم أن الموت مرحلة يستعد فيها الإنسان للجنة أو النار.. لذلك فإن فكرة الموت مُرعبة للغاية. والمضحك أنك إذا طالعت الكتب وجدت أن بعض الأدباء والمشاهير يجعلون من الموت أمرًا سعيدًا فهم لا يهابونه، ويرددون أن الإنسان الشجاع يواجه الموت بسهولة.. ولكن من منهم جرب الموت ثم كتب عنه فيُؤكد لنا مايزعم؟

ولعلّ قصيدة مالك بن الريب من أصدق ما قالته العرب من الشعر لأن مالكًا أنشدها وهو يحتضر:
أقولُ لأصحابي ارفعوني فإنني   يقرُّ بعيني أن سهيل بدا ليا

فهو يخاف من وحشة الموت، ويأنسُ برؤية نجم سهيل الذي اعتاد رؤيته.. ويطلب من صاحبيه أن يبكيا عليه، وأن يزوراه، ونشعر في كامل القصيدة بخوفه من الموت بعيدًا عن أهله وقومه. ولكن لماذا يريد القرب منهم وهو يعلم أنه سيرحل وحيدًا فلا ينفعه قربهم إليه؟
ولأن الإنسان من النسيان، فهو يتناسى هذا الخوف لحد الإنكار ويُداريه حتى يتجذّر في اللاوعي، فيظهر له هذا الخوف بشكل أو بآخر. في كتاب إرنس بيكر “إنكار الموت” والذي كتبه قبل أن يموت بعام واحد ثم حصل بعد موته بشهرين على جائزة بوليتزر، يتحدث عن هذا الإنكار، فيدور كتابه حول فرضية أن التطور البشري الذي نشهده الآن ماهو إلا دليل على حيلة دفاعية نفسية يستخدمها الإنسان يُنكر بواسطتها الموت ويرغب من خلالها الخلود.

2761
فالعلوم والفنون الإنسانية كالموسيقى والآداب وحتى الحركات السياسية لم تتطور إلا لرغبة الإنسان في تخليد ذكراه من خلالها. ويخبرنا بيكر أن الناس يجعلون من الأشخاص الذين واجهوا الموت أبطالًا بل ويقدسونهم، فيسوع هو بطل في العقيدة المسيحية لأنه انتصر على الموت ورجع إلى الحياة. ويذكرني بذلك بالشهداء عند المسلمين، فهم أبطال أيضًا تحدّوا الموت ومازالوا أحياء عند ربهم يُرزقون.

ومن أشكال إنكار الموت وطلب الخلود هو التناسل، ويذكرنا بقول شوبنهاور “أن الإنسان يقهر الموت من خلال الإنجاب”. ولعل ذلك أيضًا أن يُذكّرنا بالسيناريو المتكرر عن الرجل الشرقي الذي يصر على إنجاب ذكر حتى يحمل-يُخلد- اسمه. ومن الطريف أن هذا الرجل لن يُذكر اسمه بعد جيلين في الأوراق الرسمية التي أصبحت تسأل فقط عن الاسم الرباعي وأحيانًا الثلاثي، وأن شوبنهاور خُلّد ذكراه على الأرض بلا ولد.

ومن أشكال التهرب من الموت والرغبة في الخلود بحثُ الإنسان عن معنى لحياته. فالكآبة في وجهة نظر بيكر ماهي إلا فقدان الإنسان للمعنى في هذه الحياة، فعندما يُصاب الشخص بالشيزوفرينيا – مرض الفصام- فهو يختلق واقعًا يُريده حتى يضيف معنى إلى حياته، فالمرض هذا ماهو إلا افتقاد الإنسان إلى حيلة نفسية دفاعية ضد الموت.
وعندما تُطالع الكتب وتتقلب بين آراء الناس تجد أن جميعهم يُشدد على أن يكون لحياتك معنى، وإلا ..فمن الأشرف لك أن تموت! يا لقسوة الإنسان على أخيه الإنسان! ألا يقولون أن بسبب اليأس وُلدت العدمية؟
لكن كيف نجد هذا المعنى المُنقذ؟ يذكر بيكر بأن الدين لا يُقدم للإنسان هذا المعنى، وكذلك الأمر بالنسبة للعلم، فهما قاصران على تقديم معنى حقيقي لحياة الإنسان، فيجب على الإنسان أن يبحث عن “أوهام” جديدة مُقنعة تُضيف معنى لحياته حتى يشعر بالبطولة التي تجعله يقهر خوفه من الموت.. لكنه لا يُفصح لنا عن ماذا يقصد بهذه الأوهام!

يحضرني كتاب فيكتور فرانكل “الإنسان يبحث عن المعنى” -والذي كان يتحدث فيه عن فترة إعتقاله في اوشفيتز وأصبح يُعالِج بالمعنى-يقول فيه بأن الإنسان لا يمكنه أن يجد المعنى في داخله أو في ذاته، لأن الإنسان مهما حاول أن يحقق ذاته فإنه يفشل في ذلك. ولكنه يمكنه أن يجد معنى لحياته في 3 أمور: – ويستشهد في ذلك بقول نيتشه “إن من عنده سببًا لأن يعيش من أجله، فإنه غالبًا يستطيع أن يتحمل في سبيله بأي شكل من الأشكال”-
1- من خلال عمل ما: وهو مقصد الحياة للكثير من الناس
2- من خلال تجربة يعيشها أو شخص يقابله (الحب)
3- من حالة يتوصل إليها من خلال المعاناة:

كأن يكون مريضًا بالسرطان، فهو يواجه مصيرًا لا يمكن تغييره “عندئذ يكون أمام الشخص فرصة أخيرة لتحقيق القيمة العليا، لتحقيق المعنى الأعمق وهو المعاناة.. فإذا قبل تحدي المعاناة بشجاعة، كان لحياته معنى حتى اللحظة الأخيرة”.

وعن الخوف من الموت والخلود، هنا مقطع فيديو-4 دقائق- يتحدث عن سيناريو عجيب.. لو أن هناك شخص خالد، فكيف ستكون حياته الأبدية بين الفانين من البشر؟

0 thoughts on “إنكار الموت

  1. ريم says:

    موضوع مختلف .. ملاحظتي فقط على الفيديو الأخير لم أحبب إيراده لنظرية داروين والعمل على ذلك (وكأنها حقيقة), رغم علمي طبعاً بأنه كاملاً عبارة عن افتراضات عامة 🙂

شاركني رأيك