تُوفي بالأمس أوليفر ساكس، عالم وطبيب الأعصاب البريطاني، عن عمر يناهز ال٨٢ عاماً. أوليفر كان كاتباً ألّف العديد من الكتب -والتي أصبحت من الكتب الأكثر مبيعاً- تحول بعضها إلى أفلام سينمائية. كتب أوليفر ساكس هذه المقالة في نيويورك تايمز في عام 2013 استعداداً لبلوغه سن الثمانين، وقمتُ بترجمتها لكم:
في الليلة الماضية، حلمت بالزئبق: كريات ضخمة ومشعة ترتفع وتسقط. الزئبق هو العنصر الكيمائي رقم 80، وحلمي هذا ذكّرني بأنه في يوم الثلاثاء سيكون عمري ثمانون سنة.
منذ أن تعلمت الأعداد الذرية في طفولتي، والعناصر الكيميائية وأعياد الميلاد بالنسبة لي مترابطة. في عمر الحادي عشر، قلت عن نفسي “أنا صوديوم (العنصر الكيميائي رقم 11)”، والآن في سن ال79 أنا ذهب. خلال السنوات القليلة الماضية، أهديتُ لصديقي بمناسبة عيدميلاده الثمانين قارورة من الزئبق- قارورة مميزة لا تنكسر ولا يتسرب مافيها-، رمقني حينها بنظرات غريبة، لكنه لاحقاً أرسل لي رسالة رائعة كتب فيها مازحاً “أشرب القليل من هذه القارورة كل صباح من أجل الحفاظ على صحتي”.
ثمانون عاماً! بالكاد أصدق! غالباً ما أشعر بأن الحياة على وشك أن تبدأ فأدرك أنها قاربت النهاية. أمي كانت الطفلة ال16 من بين 18 طفلاً، وكنتُ أنا آخر العنقود لها، وأصغر الأطفال سناً في عائلتها. كنتُ دائماً أشعر بأنني أصغر طالب في الفصل في الثانوية العامة. هذا الشعور بأنني الأصغر سناً مازال يلازمني إلى الآن على الرغم من أن أكبر شخص أعرفه حالياً هو أنا.
كنتُ أظن بأنني سأموت في عمر ال41 عندما سقطت وكُسرت ساقي في أحد الرحلات لتسلق الجبال التي خضتها وحدي. حاولت بقدر استطاعتي أن أجبر ساقي بنفسي، ونزلت من الجبل بإستخدام يديّ فقط. في الساعات الطويلة هذه، هاجمتني ذكرياتي الجيدة والسيئة. أغلبها كانت في مزاج العرفان بالجميل: الإمتنان لما قدمه لي الآخرون، ولما استطعت أن أقدمه لهم. بعد هذه الحادثة بسنة، نشرت كتاب Awakenings
اقتربت من سن الثمانين، مع مشاكل صحية وجراحية لم تعرقلني، أشعر بأنني سعيد لأنني على قيد الحياة “ أنا سعيد لأنني لستُ ميتاً!”، في بعض الأحيان تخرج مني هذه الجملة عندما يكون الجو جميلاً. وحالتي هذه عكس الحكاية التي سمعتها من أحد الأصدقاء الذي كان يتمشى في باريس مع صمويل باكيت في جو ربيعي جميل، والذي سأله “ألا يجعلك هذا اليوم تشعر بالسعادة لأنك على قيد الحياة؟” فأجاب صمويل” ليس لهذا الحد!”.
أشعر بالإمتنان لأنني جربت العديد من الأمور، بعضها رائع، والآخر مأساوي، وأشعر بالإمتنان لأنني كتبتُ درزناً من الكتب، ووصلتني رسائل لا تعد ولا تحصى من الأصدقاء والزملاء والقراء، واستمتعتُ بما يسميه ناثانيال هوثورن بعلاقة حميمية مع العالم.
أشعر بالأسف لأنني ضيّعت (ومازلت) أوقاتاً كثيرة، أشعر بالأسف لأنني مازلت أشعر بالخجل بطريقة مؤلمة في سن ال80 وكأنني في سن ال20، أشعر بالأسف لأنني لا أتكلم لغات أخرى غير لغتي الأم وبأنني لم أسافر ولم أتعرف على ثقافات مختلفة كما يجب بطريقة أكثر انفتاحاً.
أشعر بأنه لابد أن أجرب حتى أُكمل حياتي، بغض النظر عن معنى “إكمال الحياة”. بعض مرضاي في أعمارهم ال90 أو ال100 يقولون (وكأنهم يتمتمون بالنشيد الديني لشمعون، الذي يُغنى به في نهاية الصلوات) : “عشتُ حياة كاملة، والآن أنا على استعداد للرحيل”. للبعض، يبدو هذا الكلام وكأنهم ذاهبون إلى الجنة، الجنة موجودة أكثر مما تُوجد النار، على الرغم من أن كلاً من صمويل جونسون وجيمس بوزويل ارتجفا من فكرة الذهاب إلى النار وغضبا من ديفيد هيوم الذي لم يكن مؤمناً. ليس لديّ اي إيمان (أو رغبة) في الوجود بعد الموت أكثر من إيماني بذكريات الأصدقاء والأمل بأن بعض كتبي “ستتحدث” إلى الناس بعد وفاتي.
الشاعر وستان أودين أخبرني بأنه يظن أنه سوف يعيش إلى عمر ال80 وبعدها سيهرب من الحياة (تُوفيّ وعمره 67 سنة). وعلى الرغم من أنه مضى أربعون عاماً على وفاته، إلا أنني أراه في منامي، وأرى والديّ ومرضاي السابقين، كلهم مضوا ولكني مازلت أحبهم ومازالوا مهمين بالنسبة لي.
في عمر الثمانين، شبح الخرف أو السكتة الدماغية يحومان حول الشخص في هذا العمر. ثلثُ الأشخاص المعاصرين للشخص في هذا العمر وغيرهم الكثير قد ماتوا بضرر نفسي وجسدي عميق، أو حوصروا في وجود مأساوي. في عمر الثمانين، آثار الإضمحلال تبدو واضحة جداً. ردود فعل الشخص تبدو بطيئة قليلاً، والأسماء تتهرب من ذاكرته، ولابد له أن يسترشد في إستخدام طاقاته، لكن على الرغم من ذلك، يشعر الشخص وكأنه مليء بالحياة وبالطاقة وأنه ليس كبيراً في العمر. من الممكن، مع الحظ، أن أعيش لسنوات قليلة وأُمنح الحرية لمواصلة العمل والحب اللذان يقول عنهما فرويد بأنهما الأكثر أهمية في الحياة.
عندما تحين ساعة وفاتي، آمل بأن أموت وأنا في روتين العمل كما حدث لفرانسيس كريك، عندما قيل له بأن سرطان القولون قد عاد إليه، لم يقل شيئاً في البداية، لكنه أطال النظر ثم عاد إلى تفكيره. بعدها بعدة أسابيع قال “كل أمر له بداية لا بد وأن يكون له نهاية”. عندما تُوفي، في عمر ال88، كان مايزال يمارس أكثر أعماله إبداعاً.
والدي، الذي عاش إلى سن ال94، كان يقول لي بأن عقد الثمانين كانت من أكثر السنين بهجة في حياته. كان يشعر، كما بدأت أشعر، بإتساع – وليس بإنكماش- حياته الذهنية وباتساع أفكاره. في هذه السن، يكون الشخص قد حظى بتجارب عديدة في الحياة، وشاهد العديد من الإنتصارات والمآسي، العديد من الإزدهارات والإنتكاسات، الثورات والحروب، الإنجازات العظيمة، والشكوك العميقة أيضاً. في هذه السن، يكون الشخص قد شاهد نهوض نظريات عظيمة أطاحت بها الحقائق. يكون الشخص واعياً أكثر بسرعة زوال الحياة، وربما الجمال أيضاً. في سن الثمانين، يستطيع الشخص أن يطيل النظر وأن يحظى بتاريخ مشرق لم يستطع أن يحصل عليه في عمر أقل. أستطيع أن أتخيل، وأشعر بعظامي، كيف يكون القرن من الزمان، وهذا أمر لم أستطع أن أشعر به عندما كنت في سن الأربعين أو الستين. لا أعتقد بأنه في هذا السن يوجد وقت مزعج يجب أن أتحمله، بل هناك وقت للحرية والإسترخاء، وقت متحرر من الإلتزامات المتكلفة التي واجهتها في سن أصغر، وقت أكون فيه حراً لأن أكتشف ما أريد، ولأن أربط الأفكار والمشاعر، التي خضتها في حياتي، ببعضها.
أتطلّع إلى أن يكون عمري ثمانون سنة!
شكراً على ترجمة المقالة .. جميلة
يصدف أنني الآن في منتصف أحد كتبه
و يؤسفني خبر وفاته
.
.
دائماً نجم مميزة في انتقاء المقالات و ترجمتها 💞
أحببت المقال و استمتعت به أيضاً
شكراً نجم 🌸
أنا لست من المهتمين بالقراءة والكتب, لكن أستمتع بقراءة مدوناتك
عشت حياه كامله والآن انا ع استعداد الرحيل …… مقال جميل ً